شكره، ولم يعرف حاله في طبائعه فيقوم بشكر ذلك ويكافئ عليه أحسن المكافأة. وربما حذر العاقل الناس ولم يأمن على نفسه أحداً منهم.
وقد يأخذ ابن عرس فيدخله في كمه ويخرجه من الآخر، كالذي يحمل الطائر على يده، فإذا صاد شيئاً انتفع به، ومطعمه منه. وقد قيل: لا ينبغي لذي العقل أن يحتقر صغيراً ولا كبيراً من الناس ولا من البهائم، ولكنه جدير بأن يبلوهم، ويكون ما يصنع إليهم على قدر ما يرى منهم. وقد مضى في ذلك مثل ضربه بعض الحكماء. قال الملك: وكيف كان ذلك? قال الفيلسوف: زعموا أن جماعة احتفروا ركية فوقع فيها رجل صائغ وحية وقرد وببر، ومر بهم رجل سائح فأشرف على الركية، فبصر بالرجل والحية والببر والقرد ففكر في نفسه، وقال: لست أعمل لآخرتي عملاً أفضل من أن أخلص هذا الرجل من بين هؤلاء الأعداء. فأخذ حبلاً وأدلاه إلى البئر فتعلق به القرد لخفته فخرج. ثم دلاه ثانية، فالتفت به الحية فخرجت. ثم دلاه ثالثاً فتعلق به الببر فأخرجه. فشكرن له صنيعه. وقلن له: لا تخرج هذا الرجل من الركية: فإنه ليس شيء أقل شكراً من الناس ثم هذا الرجل خاصةً. ثم قال له القرد: إن منزلي في جبل قريب من مدينة يقال لها: نوادرخت. فقال له الببر: أنا أيضاً في أجمة إلى جانب تلك المدينة. قالت الحية: أنا أيضاً في سور تلك المدينة. فإن أنت مررت بنا يوماً من الدهر، واحتجت إلينا فصوّت علينا حتى نأتيك فنجزيك بما أسديت إلينا من معروف. فلم يلتفت السائح إلى ما ذكروا له من قلة شكر الإنسان، وأدلى الحبل، فأخرج الصائغ، فسجد له، وقال له: لقد أوليتني معروفاُ. فإن أتيت يوماً من الدهر لمدينة نوادرخت فاسأل عن منزلي: فأنا رجل صائغ لعلي أكافئك بما صنعت إلي من معروف. فانطلق إلى مدينته وانطلق السائح إلى جانبه. فعرض بعد ذلك أن السائح اتفقت له الحاجة إلى تلك المدينة، فانطلق، فاستقبله القرد، فسجد له وقبّل رجليه. واعتذر إليه، وقال: إن القرود لا يملكون شيئاً، ولكن اقعد حتى آتيك. وانطلق القرد، وآتاه بفاكهة طيبة، فوضعها بين يديه، فأكل منها حاجته. ثم إن السائح انطلق حتى دنا من باب المدينة فاستقبله الببر، فخرّ له ساجداً وقال له: إنك قد أوليتني معروفاً. فاطمئن ساعة حتى آتيك. فانطلق الببر فدخل في بعض الحيطان إلى بنت الملك فقتلها، وأخذ حليها، فأتاه بها، من غير أن يعلم السائح من أين هو. فقال في نفسه: هذه البهائم قد أولتني هذا الجزاء، فكيف لو قد أتيت إلى الصائغ فأنه إن كان معسراً لا يملك شيئاً فسيبيع هذا الحلي فيستوفي ثمنه. فيعطيني بعضه، ويأخذ بعضه، وهو أعرف بثمنه. فانطلق السائح فأتى إلى الصائغ. فلما رآه رحب به وأدخله إلى بيته. فلما بصر بالحلي معه، عرفه وكان هو الذي صاغه لابنة الملك.
فقال للسائح: اطمئن حتى آتيك بطعام فلست أرضى لك ما في البيت. ثم خرج وهو يقول: قد أصبت فرصتي: أريد أن أنطلق إلى الملك وأدله على ذلك، فتحسن منزلتي عنده. فانطلق إلى باب الملك، فأرسل إليه: إن الذي قتل ابنتك وأخذ حليها عندي. فأرسل الملك وأتى بالسائح فلما نظر الحلي معه لم يمهله، وأمر به أن يعذب ويطاف به في المدينة، ويصلب. فلما فعلوا به ذلك جعل السائح يبكي ويقول بأعلى صوته: لو أني أطعت القرد والحية والببر فيما أمرنني به وأخبرنني من قلة شكر الإنسان لم يصر أمري إلى هذا البلاء، وجعل يكرر هذا القول. فسمعت مقالته تلك الحية فخرجت من جحرها فعرفته، فاشتد عليه أمره، فجعلت تحتال في خلاصه. فانطلقت حتى لدغت ابن الملك، فدعى الملك أهل العلم فرقوه ليشفوه فلم يغنوا عنه شيئاً. ثم مضت الحية إلى أخت لها من الجن، فأخبرتها بما صنع السائح إليها من المعروف، وما وقع فيه. فرقت له، وانطلقت إلى ابن الملك، وتخايلت له. وقالت له: إنك لا تبرأ حتى يرقيك هذا الرجل الذي قد عاقبتموه ظلماً. وانطلقت الحية إلى السائح فدخلت عليه السجن، وقالت له: هذا الذي كنت نهيتك عنه من اصطناع المعروف إلى هذا الإنسان: ولم تطعني. وأتته بورق ينفع من سمِّها. وقالت له: إذا جاءوا بك لترقي ابن الملك فاسقه من ماء هذا الورق: فإنه يبرأ. وإذا سألك الملك عن حالك فاصدقه: فإنك تنجوا إن شاء الله تعالى. وإن ابن الملك أخبر الملك أنه سمع قائلاً يقول: إنك لن تبرأ حتى يرقيك هذا السائح الذي حبس ظلماً. فدعا الملك السائح، وأمره أن يرقي ولده. فقال: لا أحسن الرقي، ولكن اسقه من ماء هذه الشجرة فيبرأ بإذن الله تعالى. فسقاه فبرئ الغلام. ففرح الملك بذلك: وسأله عن قصته، فأخبره. فشكره الملك، وأعطاه عطية حسنة، وأمر بالصائغ أن يصلب. فصلبوه لكذبه وانحرافه عن الشكر ومجازاته الفعل الجميل بالقبيح. ثم قال الفيلسوف للملك: ففي صنيع الصائغ بالسائح، وكفره له بعد استنقاذه إياه، وشكر البهائم له، وتخليص بعضها إياه، عبرة لمن اعتبر، وفكرة لمن تفكر، وأدب في وضع المعروف والإحسان عند أهل الوفاء والكرم، قربوا أو بعدوا لما في ذلك من صواب الرأي وجلب الخير وصرف المكروه.
باب ابن الملك وأصحابه
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل. فإن كان الرجل لا يصيب الخير إلا بعقله ورأيه وتثبته في الأمور كما يزعمون، فما بال الرجل الجاهل يصيب البلاء والضر?. قال بيدبا: كما أن الإنسان لا يبصر إلا بعينيه ولا يسمع إلا بأذنيه، كذلك العمل، إنما هو بالحلم والعقل والتثبت، غير أن القضاء والقدر يغلبان على ذلك. ومثل ذلك مثل ابن الملك وأصحابه. قال الملك: وكيف كان ذلك? قال الفيلسوف: زعموا أن أربعة نفر اصطحبوا في طريق واحدة، أحدهم ابن الملك والثاني ابن تاجر والثالث ابن شريف ذو جمال والرابع ابن أكار. وكانوا جميعاً محتاجين، وقد أصابهم ضرر وجهد شديد في موضع غربة لا يملكون إلا ما عليهم من الثياب. فبينما هم يمشون إذ فكروا في أمرهم وكان كل إنسان منهم راجعاً إلى طباعه وما كان يأتيه منه الخير: قال ابن الملك: إنما أمر الدنيا كله بالقضاء والقدر، والذي قدر على الإنسان يأتيه على كل حال، والصبر للقضاء والقدر وانتظارهما أفضل الأمور وقال ابن التاجر: العقل أفضل من كل شيء وقال ابن الشريف: الجمال أفضل مما ذكرتم.
ثم قال ابن الأكار: ليس في الدنيا أفضل من الاجتهاد في العمل فلما قربوا من مدينة يقال لها مطرون، جلسوا في ناحية منها يتشاورون: فقالوا لابن الأكار: انطلق فاكتسب لنا باجتهادك طعاماً ليومنا هذا. فانطلق ابن الأكار، وسأل عن عمل إذا عمله الإنسان يكتسب فيه طعام أربعة نفر فعرّفوه أنه ليس في تلك المدينة شيء أعز من الحطب، وكان الحطب منها على فرسخ. فانطلق ابن الأكار فاحتطب طناً من الحطب، وأتى به المدينة فباعه بدرهم واشترى به طعاماً وكتب على باب المدينة: عمل يوم واحد إذا أجهد فيه الرجل بدنه قيمته درهم. ثم انطلق إلى أصحابه بالطعام فأكلوا. فلما كان من الغد: قالوا ينبغي للذي قال إنه ليس شيء أعز من الجمال أن تكون نوبته. فانطلق ابن الشريف ليأتي المدينة، ففكر في نفسه وقال: أنا لست أحسن عملاً فما يدخلني المدينة? ثم استحيا أن يرجع إلى أصحابه بغير طعام، وهمّ بمفارقتهم. فانطلق حتى أسند ظهره إلى شجرة عظيمة، فغلبه النوم فنام. فمر به رجل من عظماء المدينة فراقه جماله وتوسم فيه شرف النِّجَّار فرقَّ له ومنحه خمسمائة درهم. فكتب على باب المدينة: جمال يوم واحد يساوي خمسمائة درهم. وأتى بالدراهم إلى أصحابه. فلما أصبحوا في اليوم الثالث، قالوا لابن التاجر: انطلق أنت فاطلب لنا بعقلك وتجارتك ليومنا هذا شيئاً. فانطلق ابن التاجر فلم يزل حتى بصر بسفينة من سفن البحر كثيرة المتاع قد قدمت إلى الساحل، فخرج إليها جماعة من التجّار يريدون أن يبتاعوا مما فيها من المتاع. فجلسوا يتشاورون في ناحية من المركب، وقال بعضهم لبعض: ارجعوا يومنا هذا لا نشتري منهم شيئاً حتى يكسد المتاع عليهم فيرخصوا علينا، مع أننا محتاجون إليه، وسيرخص. فخالف الطريق وجاء إلى أصحاب المركب، فابتاع منهم ما فيه بمائة ألف دينار نسيئة وأظهر أنه يريد أن ينقل متاعه إلى مدينة أخرى. فلما سمع التجار ذلك خافوا أن يذهب ذلك المتاع من أيديهم، فأربحوه على ما اشتراه مائة ألف درهم، وأحال عليهم أصحاب المركب بالباقي، وحمل ربحه إلى أصحابه وكتب على باب المدينة: عقل يوم واحد ثمنه مائة ألف درهم. فلما كان اليوم الرابع قالوا لابن الملك: انطلق أنت واكتسب لنا بقضائك وقدرك.
فانطلق ابن الملك حتى أتى إلى باب لمدينة فجلس على متكأ في باب المدينة، واتفق أن ملك تلك الناحية مات ولم يخلف ولداً ولا أحداً ذا قرابة. فمرّوا عليه بجنازة الملك ولم يحزنه وكلهم يحزنون. فأنكروا حاله وشتمه البواب، وقال له: من أنت يا هذا? وما يجلسك على باب المدينة ولا نراك تحزن لموت الملك? وطرده البواب عن الباب فلما ذهبوا عاد الغلام فجلس مكانه. فلما دفنوا الملك ورجعوا بصر به البواب فغضب وقال له: ألم أنهك عن الجلوس في هذا الموضع? وأخذه وحبسه. فلما كان الغد اجتمع أهل تلك المدينة يتشاورون فيمن يملكونه عليهم، وكلٌّ منهم يتطاول ينظر صاحبه، ويختلفون بينهم. فقال لهم البواب: إني رأيت أمس غلاماً جالساً على الباب، ولم أره يحزن لحزننا، فكلمته فلم يجبني، فطردته عن الباب. فلما عدت رأيته جالساً فأدخلته السجن مخافة أن يكون عيناً. فبعثت أشراف أهل المدينة إلى الغلام فجاءوا به، وسألوه عن حاله، وما أقدمه إلى مدينتهم. فقال: أنا ابن ملك فويران، وإنه لما مات والدي غلبني أخي على المُلكْ، فهربت من يده حذراً على نفسي حتى انتهيت إلى هذه الغاية. فلما ذكر الغلام ما ذكره من أمره عرفه من كان يغشى أرض أبيه منهم، وأثنوا على أبيه خيراً. ثم إن الأشراف اختاروا الغلام أن يملكوه عليهم ورضوا به. وكان لأهل تلك المدينة سنة إذا ملكوا عليهم ملكاً حملوه على فيل أبيض، وطافوا به حوالي المدينة. فلما فعلوا به ذلك مرّ بباب المدينة فرأى الكتابة على الباب فأمر أن يكتب: إن الاجتهاد والجمال والعقل وما أصاب الرجل في الدنيا من خير أو شر إنما هو بقضاء وقدر من الله عزّ وجل. وقد ازددت في ذلك اعتباراً بما ساق الله إلي من الكرامة والخير. ثم انطلق إلى مجلسه فجلس على سرير ملكه وأرسل إلى أصحابه الذين كان معهم فأحضرهم فأشرك صاحب العقل مع الوزراء، وضمّ صاحب الاجتهاد إلى أصحاب الزرع، وأمر لصاحب الجمال بمالٍ كثير ثم نفاه كي لا يفتتن به. ثم جمع علماء أرضه وذوي الرأي منهم وقال لهم: أما أصحابي فقد تيقنوا أن الذي رزقهم الله سبحانه وتعالى من الخير إنما هو بقضاء الله وقدره، وإنما أحب أن تعلموا ذلك وتستيقنوه، فإن الذي منحني الله وهيأه لي إنما كان بقدر، ولم يكن بجمال ولا عقل ولا اجتهاد. وما كنت أرجو إذ طردني أخي أن يصيبني ما يعيشني من القوت فضلاً عن أن أصيب هذه المنزلة، وما كنت أؤمل أن أكون بها: لأني قد رأيت في هذه الأرض من هو أفضل مني حسناً وجمالاً، وأشد اجتهاداً وأسد رأياً، فساقني القضاء إلى أن أعتززت بقدر من الله، وكان في ذلك الجمع شيخ فنهض حتى استوى قائماً، وقال: إنك قد تكلمت بكلام كامل عقل وحكمة، وإن الذي بلغ بك ذلك وفوز عقلك وحسن ظنّك، وقد حققت ظننا فيك ورجاءنا لك. وقد عرفنا ما ذكرت، وصدقناك فيما وصفت. والذي ساق الله إليك من المُلكِ والكرامة كنت أهلاً له، لما قسم الله تعالى لك من العقل والرأي. وإني أسعد الناس في الدنيا والآخرة من رزقه الله رأياً وعقلاً.
وقد أحسن الله إلينا إذ وفق لنا عند موت ملكنا وكرّمنا بك. ثم قام شيخ آخر سائح فحمد الله عزّ وجل وأثنى عليه وقال: إني كنت أخدم وأنا غلام قبل أن أكون سائحاً، رجلاً من أشراف الناس. فلما بدا لي رفض الدنيا فارقت ذلك الرجل، وقد كان أعطاني من أجرتي دينارين، فأردت أن أتصدق بأحدهما، وأستبقي الآخر، فأتيت السوق، فوجدت مع رجل من الصيادين زوج هدهد، فساومت فيهما فأبى الصياد أن يبيعهما إلا بدينارين، فاجتهدت أن يبيعنيهما بدينار واحد فأبى. فقلت في نفسي: أشتري أحدهما وأترك الآخر. ثم فكرت وقلت لعلهما يكونا زوجين ذكراً وأنثى فأفرق بينهما، فأدركني لهما رحمة فتوكلت على الله وابتعتهما بدينارين وأشفقت إن أرسلتهما في أرض عامرة أن يصادا، ولا يستطيعا أن يطيرا مما لقيا من الجوع والهزال، ولم آمن عليهما الآفات. فانطلقت بهما إلى مكان كثير المرعى والأشجار بعيد عن الناس والعمران، فأرسلتهما، فطارا ووقعا على شجرة مثمرة. فلما صارا في أعلاها شكرا لي، وسمعت أحدهما يقول للآخر: لقد خلصنا هذا السائح من البلاء الذي كنا فيه، واستنقذنا ونجّانا من الهلكة. وإنا لخليقان أن نكافئه بفعله. وإنّ في أصل هذه الشجرة جرة مملوءة دنانير. أفلا ندله عليها فيأخذها? فقلت لهما: كيف تدلانني على كنز لم تره العيون وأنتما لم تبصرا الشبكة? فقالا: إن القضاء إذا نزل صرف العيون عن موضع الشيء وغشّى البصر وإنما صرف القضاء اعيننا عن الشرك ولم يصرفها عن هذا الكنز. فاحتفرت واستخرجت البرنية وهي مملوءة دنانير، فدعوت لهما بالعافية، وقلت لهما: الحمد لله الذي علّمكما ما لم تعلما، وأنتما تطيران في السماء، وأخبرتما ما تحت الأرض. قالا لي: أيها العاقل، أما تعلم أن القدر غالب على كل شيء، ولا يستطيع أحد أن يتجاوزه. وأنا اخبر الملك بذلك رأيته: فإن أمر الملك أتيته بالمال فأودعته في خزائنه. فقال الملك ذلك لك، وموفّر عليك.
باب الحمامة والثعلب ومالك الحزين
وهو باب من يرى الرأي لغيره ولا يراه لنفسه. قال الملك للفيلسوف: قد سمعت هذا المثل فاضرب لي مثلاً في شأن الرجل الذي يرى الرأي لغيره ولا يراه لنفسه. قال الفيلسوف: إن مثل ذلك مثل الحمامة والثعلب ومالك الحزين. قال الملك: وما مثلهن?
قال الفيلسوف: زعموا أن حمامة كانت تفرخ في رأس نخلة طويلة ذاهبة في السماء، فكانت الحمامة تشرع في نقل العش إلى رأس تلك النخلة، فلا يمكن أن تنقل ما تنقل من العش وتجعله تحت البيض إلا بعد شدة وتعب ومشقة: لطول النخلة وسحقها، فإذا فرغت من النقل باضت ثم حضنت بيضها، فإذا فقست وأدرك فراخها جاءها ثعلب قد تعاهد ذلك منها لوقت قد علمه بقدر ما ينهض فراخها، فيقف بأصل النخلة فيصيح بها ويتوعدها أن يرقي إليها فتلقي إليه فراخها. فبينما هي ذات يوم قد أدرك لها فرخان إذ أقبل مالك الحزين فوقع على النخلة. فلما رأى الحمامة كئيبة حزينة شديدة الهم قال لها مالك الحزين: يا حمامة، ما لي أراكي كاسفة اللون سيئة الحال? فقالت له: يا مالك الحزين، إن ثعلباً دهيت به كلما كان لي فرخان جاء يهددني ويصيح في أصل النخلة، فأفرق منه فأطرح إليه فرخي. قال لها مالك الحزين: إذا أتاكِ ليفعل ما تقولين فقولي له: لا ألقي إليك فرخي، فارقَ إلي وغرر بنفسك. فإذا فعلت ذلك وأكلت فرخي، طرت عنك ونجوت بنفسي. فلما علمها مالك الحزين هذه الحيلة طار فوقع على شاطئ نهر. فأقبل الثعلب في الوقت الذي عرف، فوقف تحتها، ثم صاح كما كان يفعل. فأجابته الحمامة بما علمها مالك الحزين. قال لها الثعلب: أخبريني من علمك هذا? قالت: علمني مالك الحزين. فتوجّه الثعلب إلى مالكاً الحزين على شاطئ النهر، فوجده واقفاً. فقال له الثعلب: يا مالك الحزين: إذا أتتك الريح عن يمينك فأين تجعل رأسك? قال: عن شمالي. قال: فإذا أتتك عن شمالك فأين تجعل رأسك. قال: أجعله عن يميني أو خلفي. قال: فإذا أتتك الريح من كل مكان وكل ناحية فأين تجعله? قال: أجعله تحت جناحي. قال: وكيف تستطيع أن تجعله تحت جناحك? ما أراه يتهيأ لك. قال: بلى: قال: فأرني كيف تصنع? فلعمري يا معشر الطير لقد فضلكم الله علينا. إنكن تدرين في ساعة واحدة مثلما ندري في سنة، وتبلغن ما لا نبلغ، وتدخلن رؤسكن تحت اجنحتكن من البرد والريح. فهنيئاً لكن فأرني كيف تصنع. فأدخل الطائر رأسه تحت جناحه فوثب عليه الثعلب مكانه فأخذه فهمزه همزة دقت عنقه. ثم قال: يا عدوي نفسه، ترى الرأي للحمامة، وتعلمها الحيلة لنفسها، وتعجز عن ذلك لنفسك، حتى يستمكن منك عدوك، ثم أجهز عليه وأكله. فلما انتهى المنطق للملك والفيلسوف إلى هذا المكان سكت الملك. فقال له الفيلسوف: أيها الملك عشت ألف سنة، وملكت الأقاليم السبعة، وأعطيت من كل شيء سبباً، مع وفور سرورك وقرة عين رعيتك بك، ومساعدة القضاء والقدر لك، فإنه قد كمل فيك الحلم والعلم. وزكا منك العقل والقول والنية، فلا يوجد في رأيك نقص، ولا في قولك سقط ولا عيب. وقد جمعت النجدة واللين، فلا توجد جباناً عند اللقاء، ولا ضيق الصدر عندما ينوبك من الأشياء. وقد جمعت لك في هذا الكتاب شمل بيان الأمور، وشرحت لك جواباً ما سألتني عنه منها فأبلغتك في ذلك غاية نصحي، واجتهدت فيه برأيي ونظري ومبلغ فطنتي، التماساً لقضاء حقك وحسن النية منك. بأعمال الفكرة والعقل. فجاء كما وصفت لك من النصيحة والموعظة مع أنه ليس الآمر بالخير بأسعد من المطيع له فيه، ولا الناصح بأولى بالنصيحة من المنصوح، ولا المعلم للخير بأسعد من متعلمه منه. فافهم ذلك أيها الملك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.قال الفيلسوف: زعموا أن حمامة كانت تفرخ في رأس نخلة طويلة ذاهبة في السماء، فكانت الحمامة تشرع في نقل العش إلى رأس تلك النخلة، فلا يمكن أن تنقل ما تنقل من العش وتجعله تحت البيض إلا بعد شدة وتعب ومشقة: لطول النخلة وسحقها، فإذا فرغت من النقل باضت ثم حضنت بيضها، فإذا فقست وأدرك فراخها جاءها ثعلب قد تعاهد ذلك منها لوقت قد علمه بقدر ما ينهض فراخها، فيقف بأصل النخلة فيصيح بها ويتوعدها أن يرقي إليها فتلقي إليه فراخها. فبينما هي ذات يوم قد أدرك لها فرخان إذ أقبل مالك الحزين فوقع على النخلة. فلما رأى الحمامة كئيبة حزينة شديدة الهم قال لها مالك الحزين: يا حمامة، ما لي أراكي كاسفة اللون سيئة الحال? فقالت له: يا مالك الحزين، إن ثعلباً دهيت به كلما كان لي فرخان جاء يهددني ويصيح في أصل النخلة، فأفرق منه فأطرح إليه فرخي. قال لها مالك الحزين: إذا أتاكِ ليفعل ما تقولين فقولي له: لا ألقي إليك فرخي، فارقَ إلي وغرر بنفسك. فإذا فعلت ذلك وأكلت فرخي، طرت عنك ونجوت بنفسي. فلما علمها مالك الحزين هذه الحيلة طار فوقع على شاطئ نهر. فأقبل الثعلب في الوقت الذي عرف، فوقف تحتها، ثم صاح كما كان يفعل. فأجابته الحمامة بما علمها مالك الحزين. قال لها الثعلب: