الأذكياء
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الأذكياء

طريقك للتفوق و النجاح
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 كليلة ودمنة 15

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
malek
Admin
malek


المساهمات : 106
تاريخ التسجيل : 06/04/2008

كليلة ودمنة    15 Empty
مُساهمةموضوع: كليلة ودمنة 15   كليلة ودمنة    15 Icon_minitimeالإثنين أبريل 28, 2008 5:07 pm




الذي كفك عن الدماء وعن أكل اللحم? قال ابن آوى: إن صحبتي إياكن لا تؤثمني إذا لم أؤثم نفسي: لأن الآثام ليست من قبل الأماكن والأصحاب، ولكنها من قبل القلوب والأعمال. ولو كان صاحب المكان الصالح يكون عمله فيه صالحاً، وصاحب المكان السيء يكون عمله فيه سيئاً، كان حينئذ من قتل الناسك في محرابه لم يأثم، ومن استحياه في معركة القتال أثم. وإني إنما صحبتكن بنفسي، ولم أصحبكن بقلبي وأعمالي: لأني أعرف ثمرة الأعمال: فلزمت حالي: وثبت ابن آوى على حاله تلك واشتهر بالنسك والتزهد حتى بلغ ذلك أسداً كان ملك تلك الناحية فرغب فيه: لما بلغه عنه من العفاف والنزاهة والزهد والأمانة فأرسل إليه يستدعيه. فلما حضر كلمه وآنسه فوجده في جميع الأمور وفق غرضه. ثم دعاه بعد أيام إلى صحبته وقال له: تعلم أن عمالي كثير وأعواني جم غفير وأنا مع ذلك إلى الأعوان محتاج. وقد بلغني عنك عفاف وأدب وعقل ودين فازددت فيك رغبة. وأنا موليك من عملي جسيماً ورافعك إلى منزلة شريفة وجاعلك من خاصتي. قال ابن آوى: إن الملوك أحقاء باختيار الأعوان فيما يهتمون به من أعمالهم وأمورهم. وهم أحرى ألا يكرهوا على ذلك أحداً: فإن المكره لا يستطيع البالغة في العمل. وإني لعمل السلطان كاره. وليس لي به تجربة ولا بالسلطان رفق. وأنت ملك السباع وعندك من أجناس الوحوش عدد كثير فيهم أهل نبل وقوة ولهم على العمل حرص وعندهم به وبالسلطان رفق: فإن استعملتهم أغنوا عنك واغتبطوا لأنفسهم بما أصابهم من ذلك. قال الأسد: دع عنك هذا: فإني غير معفيك من العمل. قال ابن آوى: إنما يستطيع خدمة السلطان رجلان لست بواحد منهما: إما فاجر مصانع ينال حاجته بفجوره ويسلم بمصانعته وإما مغفل لا يحسده أحد. فن أراد أن يخدم السلطان بالصدق والعفاف فلا يخلط ذلك بمصانعته وحينئذ قل أن يسلم على ذلك: لأنه يجتمع عليه عدو السلطان وصديقه بالعداوة والحسد. أما الصديق فينافسه في منزلته ويبغى عليه فيها ويعاديه لأجلها وأما عدو السلطان فيضطغن عليه لنصيحته لسلطانه وإغنائه عنه. فإذا اجتمع عليه هذان الصنفان فقد تعرض للهلاك. قال الأسد: لا يكونن بغي أصحابي عليك وحسدهم إياك مما يعرض في نفسك: فأنت معي وأنا أكفيك ذلك وأبلغ بك من درجات الكرامة والإحسان على قدر همتك. قال ابن آوى: إن كان الملك يريد الإحسان إلي فليدعني في هذه البرية أعيش آمناً قليل الهم راضياً بعيشي من الأذى والخوف في ساعة واحدة ما لا يصل إلى غيره في طول عمره وإن قليلاً من العيش في آمن وطمأنينة خير من كثير من العيش في خوف ونصب. قال الأسد: قد سمعت مقالتك، فلا تخف شيئاً مما أراك تخاف منه. وست أجد بداً من الاستعانة بك في أمري. قال ابن آوى : أنا إذا أبى الملك إلا ذلك فليعجل لي عهداً إن بغى على أحد من أصحابه عنده، ممن هو فوقي: مخافة على منزلته، أو ممن هو دون: لينازعني في منزلتي فذكر عند الملك منهم ذاكر بلسانه، أو على لسان غيره ما يريد به تحميل الملك على ألا يعجل في أمر وأن يتثبت فيما يرفع إليه ويذكر عنده من ذلك ويفحص عنه ثم ليصنع ما بدا له. فإذا وثقت منه بذلك أعنته بنفسي فيما يحب وعملت له فيما أولاني بنصيحة واجتهاد وحرصت على ألا أجعل له على نفسي سبيلاً. قال الأسد: لك ذلك على وزيادة. ثم ولاه خزائنه واختص به دون أصحابه وزاد في كرامته. فلما رأى أصحاب الأسد ذلك غاظهم وساءهم? فأجمعوا كيدهم، واتفقوا كلهم على أن يحملوا عليه الأسد وكلن الأسد قد استطاب لحماً فعزل منه مقدراً، وأمره بالاحتفاظ به، وأن يرفعه في أحصن موضع طعامه وحملوه إلى بيت ابن آوى، فخبئوه فيه، ولا علم له به، ثم حضروا يكذبونه إن جرت في ذلك حال. فلما كان من الغد ودعا الأسد بغدائه، فقد ذلك اللحم، فالتمسه ولم يجده، وابن آوى لم يشعر بما صنع في حقه من المكيدة. فحضر الذين عملوا المكيدة، وقعدوا في المجلس. ثم إن الملك سأل عن اللحم، وشدد فيه، وقي المسألة عنه، فنظر بعضهم إلى بعض، فقال أحدهم قول المخبر الناصح: إنه لا بد لنا من أن نخبر الملك بما يضره وينفعه، وإن شق ذلك على من يشق عليه. وإنه بلغني أن ابن آوى هو الذي ذهب باللحم إلى منزله. قال الآخر: لا أراه يفعل هذا، ولكن انظروا وفحصوا فإن معرفة الخلائق شديدة. فقال الآخر: لعمري ما تكاد السرائر تعرف، وأظنكم إن فحصتم عن هذا وجدتم اللحم ببيت ابن آوى، وكل شيء يذكر من عيوبه وخيانته نحن أحق أن نصدقه. قال الآخر: لئن وجدنا هذا حقاً فليست بالخيانة فقط، ولكن مع الخيانة كفر النعمة، والجراءة على الملك. قال الآخر: أنتم أهل العدل والفضل، لا أستطيع أن أكذبكم، ولكن سيبين هذا لو أرسل إلى الملك من يفتشه. قال الآخر: إن كان الملك مفتشاً منزله فليعجل: فإن عيونه وجواسيسه مبثوثة بكل مكان. ولم يزالوا في الكلام و أشباهه، حتى وقع في نفس الأسد ذلك، فأمر بابن آوى فحضر فقال له: أين اللحم الذي أمرتك بالاحتفاظ به، قال: دفعته إلى صاحب الطعام ليقربه إلى الملك. فدعا الأسد بصاحب الطعام، وكان ممن وبايع مع القوم على ابن آوى. فقال: ما دفع إلى شيئاً. فأرسل الأسد أميناً إلى بيت ابن آوى ليفتشه، فوجد فيه ذلك اللحم، فأتى به الأسد. فدنا من الأسد ذئب لم يكن تكلم في شيء من ذلك. وكان يظهر أنه من العدول الذين لا يتكلمون فيما لا يعلمون، حتى يتبين لهم الحق. فقال: بعد أن اطلع الملك على خيانة ابن آوى فلا يعفونَّ عنه: فإنه إن عفا عنه لم يطلع الملك بعدها على خيانة خائن، ولا ذنب مذنب. فأمر الأسد بابن آوى أن يخرج، ويحتفظ به. فقال بعض جلساء الملك: إني لأعجب من رأي الملك ومعرفته بالأمور كيف يخفى عليه أمر هذا، ولم يعرف خبثه ومخادعته? وأعجب من هذا أني أراه سيصفح عنه، بعد الذي ظهر منه. فأرسل الأسد بعضهم رسولاً إلى ابن آوى يلتمس منه العذر، فرجع إليه الرسول برسالة كاذبة اخترعها فغضب الأسد من ذلك وأمر بابن آوى أن يقتل. فعلمت أم الأسد أنه قد عجّل في أمره، فأرسلت إلى الذين أمروا بقتله أن يؤخروه، ودخلت على ابنها، فقالت: يا بني بأي ذنب أمرت بقتل ابن آوى? فأخبرها بالأمر. فقالت: يا بنيَّ عجّلت. وإنما يسلم العاقل من الندامة بترك العجلة وبالتثبت. والعجلة لا يزال صاحبها يجتني ثمرة الندامة، بسبب ضعف الرأي. وليس أحد أحوج إلى التُّؤدة والتثبت من الملوك: فإن المرأة بزوجها، والولد بوالديه، والمتعلم بالمعلم والجند بالقائد، والناسك بالدين، والعامة بالملوك، والملوك بالتقوى، والتقوى بالعمل، والعقل بالتثبت والأناة، ورأس الكل الحزم، ورأس الحزم للملك معرفة أصحابه، وإنزالهم منازلهم على طبقاتهم، واتهامه بعضهم على بعض. فإنه لو وجد بعضهم إلى هلاك بعض سبيلاً لفعل. وقد جربت ابن آوى، وبلوت رأيه وأمانته ومروءته، ثم لم تزل مادحاً له راضياً عنه. وليس ينبغي للملك أن يخوّنه بعد ارتضائه إياه وائتمانه له، ومنذ مجيئه إلى الآن لم يطلع له على خيانة إلا على العفة والنصيحة. وما كان رأي الملك أن يعجل عليه لأجل طابق لحم. وأنت أيها الملك حقيق أن تنظر في حال ابن آوى: لتعلم أنه لم يكن ليتعرّض للحم استودعته إياه. ولعل الملك إن فحص عن ذلك ظهر له أن ابن آوى له خصماء هم الذين أتمروا بهذا الأمر. وهم الذين ذهبوا باللحم إلى بيته فوضعوه فيه: فإن الحدأة إذا كان في رجلها قطعة لحم اجتمع عليها سائر الطير، والكلب إذا كان معه عظم اجتمع عليه الكلاب. وابن آوى منذ كان إلى اليوم نافع، وكان محتملاً لكل ضرر في جنب منفعة تصل إليك، ولكل عناء يكون لك فيه راحة، ولم يطوى دونك سراً.

فبينما أم الأسد تقص عليه هذه المقالة، إذ دخل على الأسد بعض ثقاته، فأخبره ببراءة ابن آوى. فقالت أم الأسد، بعد أن اطلع الملك على براءة ابن آوى: إن الملك حقيق ألا يرخّص لمن سعى به لئلا يتجرءوا إلى ما هو أعظم من ذلك بل يعاقبهم عليه لكي لا يعودوا إلى مثله: فأنه لا ينبغي للعاقل أن يراجع في أمر الكفور للحسنى، الجريء على الغدر، الزاهد في الخير الذي لا يوقن بالآخرة. وينبغي أن يجزى بعمله، وقد عرفت سرعة الغضب وفرط الهفوة، ومن سخط باليسير لم يبلغ رضاه بالكثير. والأولى لك أن تراجع ابن آوى، وتعطف عليه، ولا يوئسنك من مناصحته ما فرط منك إليه من الإساءة: فإن من الناس من لا ينبغي تركه على حال من الأحوال، وهو من عرف بالصلاح والكرم وحسن العهد والشكر والوفاء والمحبة للناس والسلامة من الحسد والبعد من الأذى والاحتمال للإخوان والأصحاب وإن ثقلت عليه منه المئونة. وأما من ينبغي تركه فهو من عرف بالشراسة ولؤم العهد وقلة الشكر والوفاء والبعد من الرحمة والورع، واتصف بالجحود لثواب الآخرة وعقابها. وقد عرفت ابن آوى وجربته وأنت حقيق بمواصلته. فدعى الأسد بابن آوى وأعتذر إليه مما كان منه ووعده خيراً، وقال: إني معتذر إليك ورادّك إلى منزلتك. فقال ابن آوى: إن شر الأخلاء من التمس منعة نفسه بضر أخيه، ومن كان غير ناظر له كنظره لنفسه، أو كان يريد أن يرضيه بغير الحق لأجل إتباع هواه. وكثيراً ما يقع ذلك بين الأخلاء. وقد كان من الملك إلى ما علم فلا يغلظن على نفسه ما اخبره به إني به غير واثق، وإنه لا ينبغي لي أن أصحبه: فإن الملوك لا ينبغي أن يصحبوا من عاقبوه أشد العقاب، ولا ينبغي لهم أن يرفضوه أصلاً: فإن ذا السلطان إذا عزل كان مستحقاً للكرامة في حالة إبعاده والإقصاء له. فلم يلتفت الأسد إلى كلامه. ثم قال له: إني قد بلوت طباعك وأخلاقك، وجربت أمانتك ووفاءك وصدقك، وعرفت كذب من تمحّل الحيلة لتحملي عليك. وإني منزلك من نفسي منزلة الأخيار الكرماء، والكريم تنسيه الخلة الواحدة من الإحسان، الخلال الكثيرة من الإساءة. وقد عدنا إلى الثقة بك، فعد إلى الثقة بنا: فإن لنا ولك بذلك غطة وسروراً. فعاد ابن آوى إلى ولاية ما كان يلي، وضاعف له الملك الكرامة، ولم تزده الأيام إلا تقرباً من السلطان.

باب إيلاذ وبلاذ وايراخت

قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل، فاضرب لي مثلاً في الأشياء التي يجب على الملك أن يلزم بها نفسه، ويحفظ ملكه ويثبت سلطانه، ويكون ذلك رأس أمره وملاكه: أبالحلم أم بالمروءة أم بالشجاعة أم بالجود? قال بيدبا: إن أحق ما يحفظ به الملك ملكه الحلم، وبه تثبت السلطنة، والحلم رأس الأمور وملاكها، وأجود ما كان في الملوك: كالذي زعموا من أنه كان ملك يدعى بلاذ، وكان له وزير يدعى إيلاذ. وكان متعبداً ناسكاً. فنام الملك ذات ليلة، فرأى في منامه ثمانية أحلام أفزعته، فاستيقظ مرعوباً. فدعا البراهمة، وهم النسّاك ليعبروا رؤياه. فلما حضروا بين يديه قص عليهم ما رأى. فقالوا بأجمعهم: لقد رأى الملك عجباً فإن أمهلتنا سبعة أيام جئناه بتأويله. قال الملك: قد أمهلتكم فخرجوا من عنده ثم اجتمعوا في منزل أحدهم وأتمروا بينهم. وقالوا: قد وجدتم علماً واسعاً تدركون به ثأركم و تنقمون به من عدوكم، وقد علمتم أنه قتل منا بالأمس اثنى عشر ألفا. وها هو قد أطلعنا على سره وسألناه تفسير رؤياه: فهلم نغلظ له القول ونخوفه حتى يحمله الفرق والجزع على أن يفعل الذي نريد ونأمر. فنقول: ادفع إلينا أحباءك ومن يكرم عليك حتى نقتلهم: فإن قد نظرنا في كتابنا فلم نر أن يدفع عنك ما رأيت لنفسك وما وقعت فيه من هذا للشر إلا بقتل من نسمي لك فإن قال الملك: وما تريدون أن تقتلوا? سموهم لي. قلنا نريد الملكة ايراخت أم جوير المحمودة أكرم نسائك عليك. ونريد جوير أحب بنيك إليك وأفضلهم عندك. ونريد ابن أخيك الكريم، وإيلاذ خليلك وصاحب أمرك. ونريد كالا الكاتب صاحب سرك وسيفك الذي لا يوجد مثله والفيل الأبيض الذي لا تلحقه الخيل والفرس الذي هو مركبك في القتال. ونريد الفيلين الآخرين العظيمين الذين يكونان مع الفيل الذكر. ونريد البختي السريع القوي. ونريد كباريون الحكيم الفاضل العالم بالأمور لننتقم منه بما فعل بنا. ثم نقول: إنما ينبغي لك أيها الملك أن تقتل هؤلاء الذين سميناهم لك، ثم تجعل دماءهم في حوض تملؤه، ثم تقعد فيه. فإذا خرجت من الحوض اجتمعنا نحن معاشر البراهمة من الآفاق الأربعة نجول حولك فنرقيك ونتفل عليك ونمسح عنك الدم ونغسلك بالماء والدهن الطيب. ثم تقوم إلى منزلك البهيّ فيدفع الله بذلك البلاء الذي نتخوفه عليك. فإن صبرت، أيها الملك، وطابت نفسك عن أحبائك الذين ذكرنا لك، وجعلتهم فداءك، تخلصت من البلاء، واستقام لك ملكك وسلطانك، واستخلفت من بعدهم من أحببت. وإن أنت لم تفعل تخوّفنا عليك أن يغضب ملكك أو تهلك. فإن هو أطاعنا فيما نأمره قتلناه أي قتلة شئنا. فلما أجمعوا على ما أتمروا به رجعوا إليه في اليوم السابع. وقالوا له: أيها الملك، إنّا نظرنا في كتبنا في تفسير ما رأيت، وفحصنا عن الرأي فيما بيننا. فلتكن لك أيها الملك الطاهر الصالح الكرامة. ولسنا نقدر أن نعلمك بما رأينا إلا أن تخلو بنا. فأخرج الملك من كان عنده وخلا بهم. فحدثوا بالذي ائتمروا به. فقال لهم: الموت خير لي من الحياة إن أنا قتلت هؤلاء الذين هم عديل نفسي. وأنا ميت لا محالة، والحياة قصيرة، ولست كل الدهر ملكاً، وإن الموت عندي وفراق الأحباء سواء. قال له البراهمة: إن أنت لم تغضب أخبرناك. فأذن لهم.
فقالوا: أيها الملك إنك لم تقل صواباً حين تجعل نفس غيرك أعز عندك من نفسك. فاحتفظ بنفسك وملكك. واعمل هذا الذي لك فيه الرجاء العظيم على ثقة ويقين. وقرّ عيناً بملكك في وجوه أهل مملكتك الذين شرفت وكرمت بهم. ولا تدع الأمر العظيم وتأخذ بالضعيف فتهلك نفسك إيثاراً لمن تحب. واعلم أيها الملك أن الإنسان إنما يحب الحياة محبة لنفسه. وأنه لا يحب من أحب من الأحباء إلا ليتمتع بهم في حياته. وإنما قوام نفسك بعد الله تعالى بملكك. وإنك لم تنل ملكك إلا بالمشقة والعناء الكثير في الشهور والسنين. وليس ينبغي أن ترفضه ويهون عليك. فاستمع كلامنا. فانظر لنفسك مناها، ودع ما سواها: فإنه لا خطر له. فلما رأى الملك أن البراهمة قد أغلظوا له في القول واجترءوا عليه في الكلام اشتد غمّه وحزنه. وقام من بين ظهرانيهم ودخل إلى حجرته فخرّ على وجهه يبكي ويتقلب كما تتقلب السمكة إذا خرجت من الماء، وجعل يقول في نفسه: ما أدري أي الأمرين أعظم في نفسي? المملكة أم قتل أحبائي? ولن أنال الفرح ما عشت. وليس ملكي بباق عليّ إلى الأبد. ولست بالمصيب سؤلي في ملكي. وإني لزاهد في الحياة إذا لم أرى إيراخت. وكيف أقدر على القيام بملكي إذا هلك وزيري إيلاذ? وكيف أضبط أمري إذا هلك فيلي الأبيض وفرسي الجواد? وكيف أدعى ملكاً وقد قتلت من أشار البراهمة بقتله? وما أصنع بالدنيا بعدهم? ثم إن الحديث فشا في الأرض بحزن الملك وهمّه. فلما رأى إيلاذ ما نال الملك من الهم والحزن فكّر بحكمته ونظر وقال: ما ينبغي لي أن أستقبل الملك فأسأله عن هذا الأمر الذي قد ناله من غير أن يدعوني. ثم انطلق إلى إيراخت فقال: إني منذ خدمت الملك إلى الآن لم يعمل عملاً إلا بمشورتي ورأيي. وأراه يكتم عني أمراً لا أعلم ما هو. ولا أراه يظهر منه شيئاً. وإني رأيته خالياً مع الجماعة البرهميين منذ ليال. وقد احتجب عنّا فيها. وأنا خائف أن يكون قد أطلعهم على شيء من أسراره. فلست آمنهم أن يشيروا عليه بما يضره ويدخل عليه منه السوء. فقومي وادخلي عليه فاسأليه عن أمره وشأنه. واخبريني بما هو عليه وأعلميني: فإني لست أقدر على الدخول عليه. فلعلّ البرهميين قد زينوا له أمراً أو حملوه على خطة قبيحة. وقد علمت أن من خُلُقِ الملك أنه إذا غضب لا يسأل أحداً. وسواء عنده صغير الأمور وكبيرها. فقالت إيراخت: إنه كان بيني وبين الملك بعض العتاب فلست بداخلة عليه بهذه الحال. فقال لها إيلاذ: لا تحملي عليه الحقد في مثل هذا. ولا يخطرنّ ذلك على بالك فليس يقدر على الدخول عليه أحد سواك.
وقد سمعته كثيراً يقول: ما أشتد غمّي ودخلت عليّ إيراخت إلا سرِّى عني، فقومي إليه واصفحي عنه. وكلميه بما تعلمين أنه تطيب به نفسه ويذهب الذي يجده. وأعلميني بما يكون جوابه: فإنه لنا ولأهل المملكة أعظم الراحة. فانطلقت إيراخت فدخلت على الملك فجلست عند رأسه. فقالت: ما الذي بك أيها الملك المحمود? وما الذي سمعت من البراهمة? فإني أراك محزوناً. فأعلمني ما بك، فقد ينبغي لنا أن نحزن معك ونواسيك بأنفسنا. فقال الملك: أيتها السيدة لا تسأليني عن أمري فتزيديني غمّاً وحزناً: فإنه أمر لا ينبغي أن تسأليني عنه. قالت: أو قد نزلت عندك منزلة من يستحق هذا? إنما أحمد الناس عقلاً من إذا نزلت به النازلة كان لنفسه أشد ضبطاً، وأكثرهم استماعاً من أهل النصح حتى ينجو من تلك النازلة بالحيلة والعقل والبحث والمشاورة. فعظيم الذنب لا يقنط من الرحمة. ولا تدخلّن عليك شيئاً من الهم والحزن. فإنهما لا يردان شيئاً مقضياً. إلا أنهما ينحلان الجسم ويشفيان العدو. قال لها الملك: لا يسأليني عن شيء فقد شققت عليّ. والذي تسألينني عنه لا خير فيه: لأن عاقبته هلاكي وهلاكك وهلاك كثير من أهل مملكتي ومن هو عديل نفسي. وذاك أن البراهمة زعموا أنه لا بد من قتلك وقتل كثير من أهل مودتي. ولا خير في العيش بعدكم. وهل أحد يسمع بهذا إلا اعتراه الحزن?.


فلما سمعت ذلك إيراخت جزعت. ومنعها عقلها أن تظهر للملك جزعاً. فقالت: أيها الملك لا تجزع فنحن لك الفداء. ولك في سواي ومثلي من الجواري ما تقر به عينك. ولكني أطلب منك، أيها الملك، حاجة يحملني على طلبها حبي لك وإيثاري إياك. وهي نصيحتي لك. قال الملك: وما هي? قالت: أطلب منك أن لا تثق بعدها بأحد من البراهمة. ولا تشاورهم في أمر حتى تتثبت في أمرك. ثم تشاور فيه ثقاتك مراراً: فإن القتل أمر عظيم، ولست تقدر على أن تحيي من قتلت. وقد قيل في الحديث: إذا لقيت جوهراً لا خير فيه فلا تلقيه من يدك حتى تريه من يعرفه. وأنت أيها الملك لا تعرف أعداءك. واعلم أن البراهمة لا يحبونك.
وقد قتلت منهم بالأمس اثني عشر ألفاً. ولا تظن أن هؤلاء ليسو من أولئك. ولعمري ما كنت جديراً أن تخبرهم برؤياك، ولا أن تطلعهم عليها. وإنما قالوا لك ما قالوا لأجل الحقد الذي بينك وبينهم: لعلهم يهلكونك ويهلكون أحباءك ووزيرك: فيبلغوا قصدهم منك. فأظنك لو قبلت منهم فقتلت من أشاروا بقتله ظفروا بك وغلبوك على ملكك، فيعود الملك إليهم كما كان. فانطلق إلى كباريون الحكيم، فهو عالم فطن فاخبره عمّا رأيت في رؤياك واسأله عن وجهها وتأويلها. فلما سمع الملك ذلك سرّى عنه وما كان يجده من الغم. فأمر بفرسه فأسرج فركبه ثم انطلق إلى كباريون الحكيم. فلما انتهى إليه نزل عن فرسه وسجد له، وقام مطأطئاً الرأس بين يديه. فقال له الحكيم: ما بالك أيها الملك? وما لي أراك متغير اللون? فقال له الملك إني رأيت في المنام ثمانية أحلام فقصصتها على البراهمة. وأنا خائف أن يصيبني من ذلك عظيم أمر مما سمعت من تعبيرهم لرؤياي. وأخشى أن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://clever.mam9.com
 
كليلة ودمنة 15
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأذكياء :: طريقك للتفوق والنجاح :: قسم الأدب العربي-
انتقل الى: