الأذكياء
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الأذكياء

طريقك للتفوق و النجاح
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 كليلة ودمنة 11

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
malek
Admin
malek


المساهمات : 106
تاريخ التسجيل : 06/04/2008

كليلة ودمنة 11 Empty
مُساهمةموضوع: كليلة ودمنة 11   كليلة ودمنة 11 Icon_minitimeالإثنين أبريل 28, 2008 5:01 pm



جزاء، والمودة بين الصالحين سريع اتصالها بطيءٌ انقطاعها. ومثل ذلك مثل الكوز من الذهب: بطيء الانكسار، سريع الإعادة، هيّن الإصلاح، إن أصابه ثلم أو كسر، والمودة بين الأشرار سريعٌ انقطاعها، بطيء اتصالها. ومثل ذلك مثل الكوز من الفخار سريع الانكسار ينكسر من أدنى عيب ولا وصل له أبداً. والكريم يودّ الكريم واللئيم لا يودّ أحداً إلا عن رغبة أو رهبة. وأنا إلى ودّك ومعروفك محتاج: لأنك كريم وأنا ملازم لبابك غير ذائق طعاماً حتى تؤاخيني. قال الجرذ: قد قبلت إخاءك: فإني لم أردد أحداً عن حاجة قطُّ، وإنما بدأت بما بدأتك به إرادة التوثق لنفسي فإن أنت غدرت بي لم تقل: إني وجدت الجرذ سريع الانخداع. ثم خرج من حجره، فوقف عند الباب. فقال له الغراب: ما يمنعك من الخروج إليّ، والاستئناس بي? فهل في نفسك بعد ذلك مني ريبة? قال الجرذ: إن أهل الدنيا يتعاطون فيما بينهم أمرين ويتواصلون عليهما وهما ذات النفس، وذات اليد. فالمتباذلون ذات النفس هم الأصفياء، وأما المتباذلون ذات اليد فهم المتعاونون الذين يلتمس بعضهم الانتفاع ببعض. ومن كان يصنع المعروف لبعض منافع الدنيا فإنما مثله فيما يبذل ويعطى كمثل الصياد وإلقائه الحب للطير، لا يريد بذلك نفع الطير وإنما يريد نفع نفسه. فتعاطى ذات النفس أفضل من تعاطي ذات اليد. وإني وثقت منك بذات نفسك، ومنحتك من نفسي مثل ذلك. وليس يمنعني من الخروج إليك سوء ظنٍّ بك، ولكن قد عرفت أن لك أصحاباً جوهرهم كجوهرك، وليس رأيهم فيَّ رأيك.

قال الغراب: إن من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقاً، ولعدو صديقه عدواً؛ وليس لي بصاحب ولا صديق من لا يكون لك محباً؛ وإنه يهون عن قطيعة من كان كذلك من جوهري. ثم إن الجرذ خرج إلى الغراب فتصافحا وتصافيا، وأنس كل واحد منهما بصاحبه؛ حتى إذا مضت لهما أيام قال الغراب للجرذ: إن جحرك قريب من طريق الناس، وأخاف أن يرميك بعض الصبيان بحجرٍ؛ ولي مكان في عزلة، ولي فيه صديقٌ من السلاحف وهو مخصب من السمك ونحن واجدون هناك ما نأكل فأريد أن أنطلق بك إلى هناك لنعيش آمنين. قال الجرذ: إن لي أخبار وقصصاً سأقصها عليك إذا انتهينا حيث تريد فافعل ما تشاء. فأخذ الغراب بذنب الجرذ وطار به حتى بلغ به حيث أراد. فلما دنى من العين التي فيها السلحفاة بصرت السلحفاة بغراب ومعه جرذ فذعرت منه ولم تعلم أنه صاحبها، فناداه فخرجت إليه وسألته من أين أقبلت? فأخبرها بقصته حين تبع الحمام وما كان من أمره وأمر الجرذ حتى انتهى إليها. فلما سمعت السلحفاة شأن الجرذ عجبت من عقله ووفاءه ورحبت به وقالت له: ما ساقك إلى هذه الأرض? قال الغراب للجرذ: اقصص عليّ الأخبار التي زعمت أنك تحدثني بها فأخبرني بها مع جواب ما سألت السلحفاة: فإنها عندك بمنزلتي، فبدأ الجرذ وقال: كان منزلي أول أمري بمدينة ماروت في بيت رجل ناسك وكان خالياً من الأهل والعيال، وكان يؤتى في كل يوم بسلة من الطعام فيأكل منها حاجته ويعلق الباقي، وكنت أرصد الناسك، حتى يخرج وأثب إلى السلة، فلا أدع فيها طعاماً إلا أكلته، وأرمي به إلى الجرذان. فجهد الناسك مراراً أن يعلق السلة مكاناً لا أناله فلم يقدر على ذلك، حتى نزل به ذات ليلة ضيف فأكلا جميعاً، ثم أخذا في الحديث فقال الناسك للضيف: من أي أرض أقبلت? وأين تريد الآن? وكان الرجل قد جاب الآفاق ورأى عجائب فأنشأ يحدث الناسك عمّا وطئ من البلاد، ورأى من العجائب، وجعل الناسك خلال ذلك يصفق بيديه لينفّرني عن السلة، فغضب الضيف وقال: أنا أحدثك وأنت تهزأ بحديثي! فما حملك على أن سألتني? فاعتذر إليه الناسك، وقال: إنما أصفق بيدي لأنفّر جرذاً قد تحيرت في أمره، ولست أضع في البيت شيئاً إلا أكله، فقال الضيف: جرذٌ واحد يفعل ذلك أم جرذان كثيرة? فقال الناسك: فما أستطيع له حيلة. قال الضيف: لقد ذكرتني قول الذي قال: لأمر ما باعت هذه المرأة سمسماً مقشوراً بغير مقشور! قال الناسك: وكيف كان ذلك?

قال الضيف: نزلت مرة على رجل بمكان كذا، فتعشينا، ثم فرش لي. وانقلب الرجل على فراشه، فسمعته يقول في آخر الليل لامرأته: إني أريد أن أدعو غداً رهطا ليأكلوا عندنا، فاصنعي لهم طعاماً. فقالت المرأة: كيف تدعو الناس إلى طعامك، وليس في بيتك فضل عن عيالك? وأنت رجل لا تبقي شيئاً ولا تدخره. قال الرجل: لا تندمي على شيءٍ أطعمناه وأنفقناه: فإن الجمع والادخار ربما كانت عاقبته كعاقبة الذئب. قالت المرأة وكيف كان ذلك? قال الرجل: زعموا أنه خرج ذات يوم رجل قانصٌ، ومعه قوصه ونشابه فلم يجاوز غير بعيد، حتى رمى ظبياً، فحمله ورجع طالباً منزله، فاعترضه خنزير بريٌّ فرماه بنشابةٍ نفذت فيه، فأدركه الخنزير وضربه بأنيابه ضربة أطارت من يده القوس، ووقعا ميتين، فأتى عليهم ذئب فقال: هذا الرجل والظبي والخنزير يكفيني أكلهم مدةً، ولكن أبدأ بهذا الوتر فآكله، فيكون قوت يومي، فعالج الوتر حتى قطعه فلما انقطع طارت سية القوس فضربت حلقه فمات. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلمي أن الجمع والادخار وخيم العاقبة. فقالت المرأة: نعم ما قلت! وعندنا من الأرز والسمسم ما يكفي ستة نفر أو سبعة، فأنا غاديةٌ على اصطناع الطعام، فادع من أحببت. وأخذت المرأة حين أصبحت سمسماً فقشرته، وبسطته في الشمس ليجفِّ، وقالت لغلام لهم: اطرد عنه الطير والكلاب وتفرغت المرأة لصنعها؛ وتغافل الغلام عن السمسم؛ فجاء كلبٌ، فعاث فيه؛ فاستقذرته المرأة، وكرهت أن تصنع منه طعاماً ما؛ فذهبت به إلى السوق، فأخذت به مقايضة سمسماً غير مقشور: مثلاً بمثلٍ، وأنا واقفٌ في السوق؛ فقال رجلٌ: لأمرٍ ما باعت هذه المرأة سمسماً مقشوراً بغير مقشورٍ. وكذلك قولي في هذا الجرذ الذي ذكرت أنه على غير علةٍ ما يقدر على ما شكوت منه. فالتمس لي فأساً لعلي أحتقره جحره فأطلع على بعض شأنه. فاستعار الناسك من بعض جيرانه فأساً، فأتى بها الضيف، وأنا حينئذٍ في غير جحري أسمع كلامهما، وفي جحري كيس فيه مائة دينار، لا أدري من وضعها، فاحتفر الضيف حتى انتهى إلى الدنانير فأخذها وقال الناسك: ما كان هذا الجرذ يقوى على الوثوب حيث كان يثب إلا بهذه الدنانير: فإن المال جعل له قوة وزيادة في الرأي والتمكن. وسترى بعد هذا أنه لا يقدر على الوثوب حيث كان يثب. فلما كان من الغد اجتمع الجرذان التي كانت معي فقالت: قد أصابنا الجوع، وأنت رجائنا فانطلقت ومعي الجرذان إلى المكان الذي كنت أثب منه إلى السلة فحاولت ذلك مراراً: فلم أقدر عليه فاستبان للجرذان نقص حالي فسمعتهن يقلن: انصرفن عنه، ولا تطمعن فيما عنده: فإنا نرى له حالاً لا نحسبه إلا قد احتاج معها إلى من يعوله. فتركني، ولحقن بأعدائي وجفونني، وأخذن في غيبتي عند من يعاديني ويحسدني. فقلت في نفسي: ما الإخوان ولا الأعوان ولا الأصدقاء إلا بالمال ووجدت من لا مال له، إذا أراد أمراً قعد به العدم عمّا يريده: كالماء الذي يبقى في الأودية من مطر الشتاء: لا يمر إلى نهر ولا يجري إلى مكان، فتشربه أرضه. ووجدت من لا إخوان له لا أهل له، ومن لا ولد له لا ذكر له: ومن لا مال له لا عقل له، ولا دنيا ولا آخرة له: لأن الرجل إذا افتقر قطعه أقاربه وإخوانه: فإن الشجرة النابتة في السباخ، المأكولة من كل جانب، كحال الفقير المحتاج إلى ما في أيدي الناس.

ووجدت الفقر رأس كل بلاء، وجالباً إلى صاحبه كل مقت، ومعدن النميمة. ووجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمناً، وأساء به الظن من كان يظن فيه حسناً: فإن أذنب غيره كان هو للتهمة موضعاً. وليس من خلة هي للغني مدح إلا وهي للفقير ذمٌ، فإن كان شجاعاً قيل: أهوج، وإن كان جواداً سمّي مبذراً، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقورا سمي بليداً. فالموت أهون من الحاجة التي تحوج صاحبها إلى المسألة، ولا سيما مسألة الأشحاء واللئام: فإن الكريم لو كلف أن يدخل يده في فم الأفعى، فيخرج منه سماً فيبتلعه كان ذلك أهون عليه وأحب إليه من مسألة البخيل اللّئم. وقد كنت رأيت الضيف حين أخذ الدنانير فقاسمها الناس، فجعل الناسك نصيبه في خريطة عند رأسه ولما جنّ الليل، فطمعت أن أصيب منها شيئاً فأرده إلى جحري، ورجوت أن يزيد ذلك في قوتي، ويراجعني بسببه بعض أصدقائي. فانطلقت إلى الناسك وهو نائم، حتى انتهيت عند رأسه، ووجدت الضيف يقظان، وبيده قضيب، فضربني على رأسي ضربة موجعة، فسعيت إلى جحري. فلما سكن عني الألم، هيجني الحرص والشره، فخرجت طمعاً كطمعي الأول، وإذا الضيف يرصدني، فضربني ضربة أسالت مني الدم، فتقلبت ظهراً لبطن إلى جحري، فخررت مغشياً عليّ، فأصابني من الوجع ما بغض إلى المال رعدة وهيبة. ثم تذكرت فوجدت البلاء في الدنيا إنما يسوقه الحرص والشره، ولا يزال صاحب الدنيا في بلية وتعب ونصب، ووجدت تجشم الأسفار البعيدة في طلب الدنيا أهون عليّ من بسط اليد إلى السَّخىِّ بالمال، ولم أر كالرضا شيئاً، فصار أمري إلى أن رضيت وقنعت، وانتقلت من بيت الناسك إلى البرية، وكان لي صديق من الحمام، فسيقت إلي بصداقته صداقة. ثم ذكر لي الغراب ما بينك وبينه من المودة، وأخبرني أنه يريد إتيانك، فأحببت أن آتيك معه، فكرهت الوحدة، فإنه لا شيء من سرور الدنيا يعدل صحبة الإخوان، ولا غم فيها يعدل البعد عنهم. وجربت: فعلمت أنه لا ينبغي للعاقل أن يلتمس من الدنيا غير الكفاف الذي يدفع به الأذى عن نفسه: وهو اليسير من المطعم والمشرب، إذا اشتمل على صحة البدن ورفاهة البال.

ولو أن رجلاً وهبت له الدنيا بما فيهان لم يك ينتفع من ذلك إلا بالقليل الذي يدفع به عن نفسه الحاجة: فأقبلت مع الغراب إليك على هذا الرأي، وأنا لك أخ، فلتكن منزلتي عندك كذلك. فلما فرغ الجرذ من كلامه أجابته السلحفاة بكلامٍ رقيقٍ عذبٍ، وقالت: قد سمعت كلامك، وما أحسن ما تحدثت به! إلا أني رأيتك تذكر بقايا أمورٍ هي في نفسك. واعلم أن حسن الكلام لا يتم إلا بحسن العمل، وأن المريض الذي قد علم دواء مرضه إن يتداو به، لم يغن به شيئاً، ولم يجد لدائه راحة ولا خفةً. فاستعمل رأيك، ولا تحزن لقلة المال: فإن الرجل ذا المروءة قد يكرم على غير مال: كالأسد الذي يهاب، وإن كان رابضاً، والغني الذي لا مروءة له يهان وإن كان كثير المال: كالكلب لا يحفل به، وإن طوق وخلخل بالذهب. فلا تكبرنّ عليك غربتك: فإن العاقل لا غربة له: كالأسد الذي لا ينقلب إلا ومعه قوته. فلتحسن تعاهدك لنفسك: فإنك إذا فعلت ذلك جاءك الخير يطلبك كما يطلب الماء انحداره. وإنما جُعلَ الفضل للحازم البصير بالأمور، وأما الكسلان المتردد فإن الفضل لا يصحبه. وقد قيل في أشياء ليس لها ثباتٌ ولا بقاء: ظل الغمامة في الصيف، وخلة الأشرار، والبناء على غير أساس، والمال الكثير: فالعاقل لا يحزن لقلته، وإنما مال العاقل عقله، وما قدّم من صالح، فهو واثق بأنه لا يسلب ما عمل ولا يوآخذ بشيءٍ لم يعمله، وهو خليق ألا يغفل عن أمر أخرته: فإن الموت لا يأتي إلا بغتةً، ليس له وقت معين. وأنت عن موعظتي غني بما عندك من العلم. ولكن رأيت أن أقضي مالك من حق قبلنا: لأنك أخونا وما عندنا من النصح مبذول لك. فلما سمع الغراب كلام السلحفاة للجرذ وردها عليه وملاطفتها إياه فرح بذلك وقال: لقد سررتني وأنعمت عليّ، وأنت جديرة أن تسرّي نفسك بمثل ما سررتني به. وإن أولى أهل الدنيا بشدّة السرور من لا يزال عنده منهم جماعة يسرهم ويسرونه، ويكون من وراء أمورهم وحاجاتهم بالمرصاد: فإن الكريم إذا عثر لا يأخذ بيده إلا الكرام: كالفيل إذا وحل لا تخرجه إلا الفيلة. فبينما الغراب في كلامه، إذ أقبل نحوهم ظبي يسعى، فذعرت منه السلحفاة، فغاصت في الماء، وخرج الجرذ إلى جحره، وطار الغراب فوقع على شجرة.

ثم إن الغراب حلّق في السماء لينظر هل للظبي طالب? فنظر فلم ير شيئاً؛ فنادى الجرذ والسلحفاة، وخرجا، فقالت السلحفاة للظبي، حين رأته ينظر إلى الماء: اشرب إن كان بك عطش، ولا تخف: فإنه لا خوف عليك. فدنا الظبي فرحبت به السلحفاة وحيّته وقالت له: من أين أقبلت? قال: كنت أسنح بهذه الصحارى فلم تزل الأساورة تطردني من مكان إلى مكان حتى رأيت اليوم شبحاً. فخفت أن يكون قانصاً قالت: لا تخف: فإنا لم نرى هاهنا قانصاً قط، ونحن نبذل لك ودّنا ومكاننا والماء والمرعى كثيران عندنا فارغب في صحبتنا. فأقام الظبي معهم وكان لهم عريش يجتمعون فيه ويتذاكرون الأحاديث والأخبار. فبينما الغراب والجرذ والسلحفاة ذات يوم في العريش غاب الظبي فتوقعوه ساعة فلم يأت. فلما أبطأ أشفقوا أن يكون قد أصابه عنتٌ، فقال الجرذ والسلحفاة للغراب: انظر هل ترى مما يلينا شيئاً? فحلق الغراب في السماء فنظر: فإذا الظبي في الحبائل مقتنصاً فانقض مسرعاً فأخبرهما بذلك فقالت السلحفاة والغراب للجرذ: هذا أمر لا يرجى فيه غيرك، فأغث أخاك، فسعى الجرذ مسرعاً، فأتى الظبي، فقال له: كيف وقعت في هذه الورطة وأنت من الأكياس? قال الظبي: هل يغني الكيس مع المقادير شيئاً، فبينما هما في الحديث إذ وافتهما السلحفاة فقال لها الظبي. ما أصبت بمجيئك إلينا: فإن القانص لو انتهى إلينا وقد قطع الجرذ الحبائل استبقه عدواً، وللجرذ أحجارٌ كثيرة، والغراب يطير وأنت ثقيلة: لا سعى لك ولا حركة وأخاف عليك القانص. فقالت: لا عيش مع فراق الأحبة وإذا فارق الأليف أليفه فقد سلب فؤاده، وحرم سروره، وغشى بصره، فلم ينتهي كلامهما حتى وافى القانص، ووافق ذلك فراغ الجرذ من قطع الشرك، فنجا الظبي بنفسه، وطار الغراب محلقاً ودخل الجرذ بعض الأحجار ولم يبق غير السلحفاة، ودنا الصياد فوجد حبالته مقطّعة، فنظر يميناً وشمالاً فلم يجد غير السلحفاة تدب، فأخذها وربطها، فلم يلبث الغراب والجرذ والظبي أن اجتمعوا فنظروا القانص قد ربط السلحفاة فاشتد حزنهم، وقال الجرذ: ما أرانا نجاوز عقبة من البلاء إلا صرنا في أشد منها. ولقد صدق الذي قال: لا يزال الإنسان مستمراً في إقباله ما لم يعثر، فإذا عثر لجَّ به العثار وإن مشى في جدد الأرض. وحذري على السلحفاة خير الأصدقاء التي خلتها ليست للمجازاة ولا لالتماس مكافأة، ولكنها خلة الكرم والشرف، خلة هي أفضل من خلة الوالد لولده، خلة لا يزيلها إلا الموت. ويحٌ لهذا الجسد الموكل به البلاء الذي لا يزال في تصرف وتقلب، ولا يدوم له شيء، ولا يلبث معه أمر: كما لا يدوم للطالع من النجوم طلوع، ولا للآفل منها أفولٌ، لكن لا يزال للطالع منها آفلاً، والآفل طالعاً، وكما تكون آلام الكلوم وانتقاض الجراحات، كذلك من قرحت كلومه بفقد إخوانه بعد اجتماعه بهم.

فقال الظبي والغراب للجرذ: إنّ حذرنا وحذرك وكلامك، وإن كان بليغاً، كلٌ منها لا يغني عن السلحفاة شيئاً، وإنه كما يقال: إنما يختر الناس عند البلاء، وذو الأمانة عند الأخذ والعطاء، والأهل والولد عند الفاقة، كذلك يختبر الإخوان عند النوائب. قال الجرذ: أرى من الحيلة أن تذهب أيها الظبي فتقع بمنظر من القانص: كأنك جريح، ويقع الغراب عليك كأنه يأكل منك، وأسعى أنا فأكون قريباً من القانص، مراقباً له، فعلّه أن يرمي ما معه من الآلة، ويضع السلحفاة، ويقصدك طامعاً فيك، راجياً تحصيلك. فإذا دنا منك ففر عنه رويداً: بحيث لا ينقطع طمعه منك، ومكنه من أخذك مرة بعد مرة، حتى يبعد عنا، وانْحُ منه هذا النحو ما استطعت: فإني أرجو ألا ينصرف إلا وقد قطعت الحبائل عن السلحفاة، وأنجو بها. ففعل الغراب والظبي ما أمرهما به الجرذ، وتبعهما القانص، فاستجره الظبي، حتى أبعده عن الجرذ والسلحفاة، والجرذ مقبلٌ على قطع الحبائل، حتى قطعها، ونجا بالسلحفاة، وعاد القانص مجهوداً لاغباُ فوجد حبالته مقطعة. ففكر في أمره مع الظبي المتظالع، فظن أنه خولط في عقله وفكر في أمر الظبي والغراب الذي كأنه يأكل منه وقرض حبالته فاستوحش من الأرض وقال: هذه أرض جنٍّ أو سحرة. فرجع مولياً لا يلتكس شيئاً ولا يلتفت إليه. واجتمع الغراب والظبي والجرذ والسلحفاة إلى عريشهم سالمين آمنيين كأحسن ما كانوا عليه. فإذا كان هذا الخلق مع صغره وضعفه قد قدر على التخلص م مرابط الهلكة مرة بعد أخرى بمودته وخلوصها وثبات قلبه عليها واستمتاعه مع أصحابه بعضهم ببعض فالإنسان الذي قد أعطي العقل والفهم. وألهم الخير ولا شر ومنح التميز والمعرفة، أولى وأحرى بالتواصل والتعاضد. فهذا مثل إخوان الصفاء وأتلافهم في الصحبة.

باب البوم والغربان

قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت مثل إخوان الصفاء وتعاونهم، فاضرب لي مثل العدوّ الذي لا ينبغي أن يغتر به، وإن أظهر تضرعاً وملقاً، قال الفيلسوف: من اغتر بالعدو الذي لم يزل عدواً، أصابه ما أصاب البوم من الغربان. قال الملك وكيف كان ذلك?

قال بيدبا: زعموا أنه كان في جبل في الجبال شجرة من شجر الدوح، فيها وكر ألف غراب، وعليهن والٍ من أنفسهن، وكان عند هذه الشجرة كهف فيه ألف بوم، وعليهن والٍ منهن. فخرج ملك البوم لبعض غدواته وروحاته، وفي نفسه العداوة لملك الغربان، وفي نفس الغربان وملكها مثل ذلك للبوم، فأغار ملك البوم في أصحابه على الغربان في أوكارها، فقتل وسبى منها خلقاً كثيراُ، وكانت الغارة ليلاً، فلما أصبحت الغربان اجتمعت إلى ملكها فقلن له: قد علمت ما لقينا الليلة من ملك البوم، وما منّا لإلا أصبح قتيلاً أو جريحاً أو مكسور الجناح أو منتوف الريش أو مقطوف الذنب وأشد مما أصابنا ضراً علينا جراءتهن علينا، وعلمهن بمكاننا، وهنّ عائدات إلينا غير منقطعات عنّا: لعلمهنّ بمكاننا: فإنما نحن لك، ولك الرأي، أيها الملك، فانظر لنا ولنفسك، وكان في الغربان خمسة معترف لهن بحسن الرأي، يسند إليهنّ في الأمور، ويلقى عليهن أزمة الأحوال. وكان الملك كثيراً ما يشاورهن في الأمور، ويأخذ آراءهن في الحوادث والنوازل. فقال الملك للأول من الخمسة: ما رأيك في هذا الأمر? قال: رأي قد سبقتنا إليه العلماء، وذلك أنهم قالوا: ليس للعدو الحنق إلا الهرب منه. قال الملك للثاني: ما رأيك في هذا الأمر? قال: رأي ما رأى هذا من الهرب. قال الملك: لا أرى لكما ذلك رأياً، أن نرحل عن أوطاننا ونخليها لعدونا من أول نكبة أصابتنا منه ولا ينبغي لنا ذلك ولكن نجمع أمرنا ونستعد لعدونا ونذكي نار الحرب فيما بيننا وبين عدونا ونحترس من الغرة إذا أقبل إلينا فنلقاه مستعدين ونقاتله قتالاً غير مراجعين فيه، ولا مقصرين عنه وتلقى أطرافنا أطراف العدو ونتحرز بحصوننا وندافع عدونّا: بالأناة مرة وبالجلاد أخرى حيث نصيب فرصتنا وبغيتنا، وقد ثنينا عدونا عنّا. ثم قال الملك للثالث: ما رأيك أنت? قال: ما أرى ما قالا رأياً. ولكن نبث العيون
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://clever.mam9.com
 
كليلة ودمنة 11
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأذكياء :: طريقك للتفوق والنجاح :: قسم الأدب العربي-
انتقل الى: