malek Admin
المساهمات : 106 تاريخ التسجيل : 06/04/2008
| موضوع: كليلة ودمنة 2 الإثنين أبريل 28, 2008 4:43 pm | |
|
إلى وهدةٍ قريبةٍ منه، فتنققن فيها، وتضججن. فإنه إذا سمع أصواتكن لم يشك في الماء فيهوي فيها. فأجبنها إلى ذلك؛ واجتمعن في الهاوية، فسمع الفيل نقيق الضفادع، وقد اجهده العطش، فأقبل حتى وقع في الوهدة، فارتطم فيها. وجاءت القنبرة ترفرف على رأسه؛ وقالت: أيها الطاغي المغتر بقوته المحتقر لأمري، كيف رأيت عظم حيلتي مع صغر جثتي عند عظم جثتك وصغر همتك? فليشر كل واحد منكم بما يسنح له من الرأي. قالوا بأجمعهم: أيها الفيلسوف الفاضل، والحكيم العادل، أنت المقدم فينا، والفاضل علينا، وما عسى أن يكون مبلغ رأينا عند رأيك، وفهمنا عند فهمك? غير أننا نعلم أن السباحة في الماء مع التماسيح تغريرٌ؛ والذنب فيه لمن دخل عليه في موضعه. والذي يستخرج السم من ناب الحية فيبتلعه ليجربه جانٍ على نفسه، فليس الذنب للحية. ومن دخل على الأسد في غابته لم يأمن من وثبته. وهذا الملك لم تفزعه النوائب، ولم تؤدبه التجارب. ولسنا نأمن عليك ولا على أنفسنا سطوته وإنا نخاف عليك من سورته ومبادرته بسوءٍ إذا لقيته بغير ما يحب. فقال الحكيم بيدبا: لعمري لقد قلتم فأحسنتم، لكن ذا الرأي الحازم لا يدع أن يشاور من هو دونه أو فوقه في المنزلة. والرأي الفرد لا يكتفي به في الخاصة ولا ينتفع به في العامة. وقد صحت عزيمتي على لقاء دبشليم. وقد سمعت مقالتكم؛ وتبين لي نصيحتكم والإشفاق علي وعليكم. غير أني قد رأيت رأياً وعزمت عزماً؛ وستعرفون حديثي عند الملك ومجاوبتي إياه فإذا اتصل بكم خروجي من عنده فاجتمعوا إلي. وصرفهم يدعون له بالسلامة.
ثم إن بيدبا اختار يوماً للدخول على الملك؛ حتى إذا كان ذلك الوقت ألقى عليه مسوحة وهي لباس البراهمة؛ وقصد باب الملك، وسأل عن صاحب إذنه وأرشد إليه وسلم عليه؛ وأعلمه قال لي: إني رجل قصدت الملك في نصيحةٍ. فدخل الآذن على الملك في وقته؛ وقال: بالباب رجلٌ من البراهمة يقال له بيدبا، ذكر أن معه للملك نصيحة. فأذن له؛ فدخل ووقف بين يديه وكفر وسجد له واستوى قائماً وسكت. وفكر دبشليم في سكوته؛ وقال: إن هذا لم يقصدنا إلا لأمرين: إما لالتماس شيءٍ منا يصلح به حاله، وإما لأمر لحقه فلم تكن له به طاقةٌ. ثم قال: إن كان للملوك فضلٌ في مملكتها فإن للحكماء فضلاً في حكمتها أعظم: لأن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم وليس الملوك أغنياء عن الحكماء بالمال. وقد وجدت العلم والحيا إلفين متآلفين لا يفترقان: متى فقد أحدهما لم يوجد الآخر؛ كالمتصافيين إن عدم منهما أحد لم يطب صاحبه نفساً بالبقاء تأسفاً عليه. ومن لم يستحي من الحكماء ويكرمهم، ويعرف فضلهم على غيرهم، ويصنهم عن المواقف الواهنة، وينزههم عن المواطن الرذلة كان ممن حرم عقله، وخسر دنياه، وظلم الحكماء حقوقهم، وعد من الجهال. ثم رفع رأسه إلى بيدبا؛ وقال له: نظرت إليك يا بيدبا ساكتاً لا تعرض حاجتك، ولا تذكر بغيتك، فقلت: إن الذي أسكته هيبةٌ ساورته أو حيرةٌ أدركته؛ وتأملك عند ذلك من طول وقوفك، وقلت: لك يكن لبيدبا أن يطرقنا على غير عادةٍ عن سبب دخوله؛ فإن لم يكن من ضيمٍ ناله، كنت أولى من أخذ بيده وسارع في تشريفه، وتقدم في البلوغ إلى مراده وإعزازه؛ وإن كانت بغيته غرضاً من أغراض الدنيا أمرت بإرضائه من ذلك فيما أحب؛ وإن يكن من أمر الملك، ومما لا ينبغي أن يبذلوه من أنفسهم ولا ينقادوا إليه نظرت في قدر عقوبته؛ على أن مثله لم يكن ليجترئ على إدخال نفسه في باب مسألة الملوك؛ وإن كان شيئاً من أمور الرعية يقصد فيه أني أصرف عنايتي إليهم، نظرت ما هو؛ فإن الحكماء لا يشيرون إلا بالخير، والجهال يشيرون بضده. وأنا قد فسحت لك في الكلام. فلما سمع بيدبا ذلك من الملك أفرخ روعه ؛ وسرى عنه ما كان وقع في نفسه من خوفه وكفر له وسجد؛ ثم قام بين يديه وقال: أول ما أقول لك أسأل الله تعالى بقاء الملك على الأبد، ودوام ملكه على الأمد: لأن الملك قد منحني في مقامي هذا محلاً جعله شرفاً لي على جميع من بعدي من العلماء؛ وذكراً باقياً على الدهر عند الحكماء. ثم أقبل على الملك بوجهه، مستبشراً به فرحاً بما بدا له منه، وقال: قد عطف الملك علي بكرمه وإحسانه. والأمر الذي دعاني إلى الدخول على الملك، وحملني على المخاطرة لكلامه، والإقدام عليه، نصيحةٌ اختصصته بها دون غيره. وسيعلم من يتصل به ذلك أني لم أقصر عن غايةٍ فيما يجب للمولى على الحكماء. فإن فسح في كلامي ووعاه عني، فهو حقيق بذلك وما يراه؛ وإن هو ألقاه، فقد بلغت ما يلزمني وخرجت من لوم يلحقني.
قال الملك بيدبا تكلم كيف شئت: فإنني مصغٍ إليك، ومقبل عليك، وسامع منك، حتى أستفرغ ما عندك إلى آخره، وأجازيك على ذلك بما أنت أهله. قال بيدبا: إني وجدت الأمور التي اختص بها الإنسان من بين سائر الحيوانات أربعة أشياء، وهي جماع ما في العالم، وهي الحكمة والعفة والعقل والعدل. والعلم والأدب والروية داخلةٌ في باب الحكمة. والحلم والصبر والوقار داخلةٌ في باب العقل. والحياء والكرم والصيانة والأنفة داخلةٌ في باب العفة. والصدق والإحسان والمراقبة وحسن الخلق داخلةٌ في باب العدل. وهذه هي المحاسن، وأضدادها هي المساوئ. فمتى كملت هذه في واحدٍ لم تخرجه الزيادة في نعمةٍ إلى سوء الحظ من دنياه ولا إلى نقصٍ في عقباه، ولم يتأسف على ما لم يعن التوفيق ببقائه، ولم يحزنه ما تجري به المقادير في ملكه، ولك يدهش عند مكروهٍ. فالحكمة كنزٌ لا يفنى على إنفاقٍ، وذخيرةٌ لا يضرب لها بالإملاق ، وحلة لا تخلق جدها، ولذةٌ لا تنصرم مدتها. ولئن كنت عند مقامي بين يدي الملك أمسكت عن ابتدائه بالكلام، وإن ذلك لم يكن مني إلا لهيبته والإجلال له. ولعمري إن الملوك لأهلٌ أن يهابوا؛ لا سيما من هو في المنزلة التي جل فيها الملك عن منازل الملوك قبله. وقد قالت العلماء: الزم السكوت؛ فإن فيه سلامةً؛ وتجنب الكلام الفارغ؛ فإن عاقبته الندامة. وحكي أن أربعةً من العلماء ضمهم مجلس الملك، فقال لهم: ليتكلم كلٌ بكلام يكون أصلاً للأدب. فقال أحدهم: أفضل خلة العلم السكوت. وقال الثاني: إن من انفع الأشياء للإنسان أن يعرف قدر منزلته من عقله. وقال الثالث: أنفع الأشياء للإنسان ألا يتكلم بما لا يعنيه. وقال الرابع: أروح الأمور على الإنسان التسليم للمقادير. واجتمع في بعض الزمان ملوك الأقاليم من الصين والهند وفارس والروم؛ وقالوا ينبغي أن يتكلم كل واحدٍ منا بكلمة تدون عنه على غابر الدهر. فقال ملك الصين: أنا على ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت. وقال ملك الهند: عجبت لمن يتكلم بالكلمة فإن كانت له لم تنفعه، وإن كانت عليه أوبقته . وقال ملك فارس: أنا إذا تكلمت بالكلمة ملكتني، وإذا لم أتكلم بها ملكتها. وقال ملك الروم: ما ندمت على ما لم أتكلم به قط، ولقد ندمت على ما تكلمت به كثيراً. والسكوت عند الملوك أحسن من الهذر الذي لا يرجع منه إلى نفع. وأفضل ما استظل به الإنسان لسانه. غير أن الملك، أطال الله مدته، لما فسح لي في الكلام وأوسع لي فيه؛ كان أولى ما أبدأ به من الأمور التي هي غرضي أن يكون ثمرة ذلك له دوني؛ وأن اختصه بالفائدة قبلي. على أن العقبى هي ما أقصد في كلامي له؛ وإنما نفعه وشرفه راجعٌ إليه؛ وأكون أنا قد قضيت فرضاً وجب علي فأقول: أيها الملك إنك في منازل آبائك وأجدادك من الجبابرة الذين أسسوا الملك قبلك، وشيدوه دونك، وبنوا القلاع والحصون، ومهدوا البلاد، وقادوا الجيوش؛ واستجاشوا العدة ، وطالت لم المدة؛ واستكثروا من السلاح والكراع؛ وعاشوا الدهور، في الغبطة والسرور؛ فلم يمنعهم ذلك من اكتساب جميل الذكر، ولا قطعهم عن اغتنام الشكر؛ ولا استعمال الإحسان إلى من خولوه، والإرفاق بمن ولوه، وحسن السيرة فيما تقلدوه؛ مع عظم ما كانوا فيه من غرة الملك، وسكرة الاقتدار. وإنك أيها الملك السعيد جدة، الطالع كوكب سعده، قد ورثت أرضهم وديارهم وأموالهم ومنازلهم التي كانت عدتهم؛ فأقمت فيما خولت من الملك وورثت من الأموال والجنود؛ فلم تقم في ذلك بحق ما يجب عليك؛ بل طغيت وبغيت وعتوت وعلوت على الرعية، وأسأت السيرة، وعظمت منك البلية. وكان الأولى والاشبه بك أن تسلك سبيل أسلافك، وتتبع آثار الملوك قبلك، وتقفو محاسن ما أبقوه لك، وتقلع عما عاره لازم لك، وشينه واقع بك؛ تحسن النظر برعيتك، وتسن لهم سنن الخير الذي يبقى بعدك ضره، ويعقبك الجميل فخره؛ ويكون ذلك أبقى على السلامة وأدوم على الاستقامة. فإن الجاهل المغتر من استعمل في أموره البطر والأمنية، والحازم اللبيب من ساس الملك بالمداراة والرفق؛ فانظر أيها الملك ما ألقيت إليك، ولا يثقلن ذلك عليك: فلم أتكلم بهذا ابتغاء عرضٍ تجازيني به، ولا التماس معروفٍ تكافئني به؛ ولكني أتيتك ناصحاً مشفقاً عليك.
فلما فرغ منه بيدبا من مقالته، وقضى مناصحته، أوغر صدر الملك فأغلظ له في الجواب استصغاراً لأمره؛ وقال: لقد تكلمت بكلامٍ ما كنت أظن أحداً من أهل مملكتي يستقبلني بمثله، ولا يقدم على ما أقدمت عليه. فكيف أنت مع صغر شأنك، وضعف منتك وعجز قوتك? ولقد أكثرت إعجابي من إقدامك علي، وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدك. وما أجد شيئاً في تأديب غيرك أبلغ من التنكيل بك. فذلك عبرةٌ وموعظةٌ لكن عساه أن يبلغ ويروم ما رمت أنت من الملوك إذا أوسعوا لهم في مجالسهم. ثم أمر به أن يقتل ويصلب. فلما مضوا به فيما أمر، فكر فيما أمر به فأحجم عنه، ثم أمر بحبسه وتقييده. فلما حبس أنفذ في طلب تلاميذه ومن كان يجتمع إليه فهربوا في البلاد واعتصموا بجزائر البحار؛ فمكث بيدبا في محبسه أياماً لا يسأل الملك عنه، ولا يلتفت إليه؛ ولا يجسر أحدٌ أن يذكره عنده؛ حتى إذا كان ليلةٌ من الليالي سهد الملك سهداً شديداً ؛ فطال سهده، ومد إلى الفلك بصره؛ وتفكر في تفلك الفلك وحركات الكواكب، فأغرق الفكر فيه؛ فسلك به إلى استنباط شيءٍ عرض له من أمور الفلك، والمسألة عنه. فذكر عند ذلك بيدبا، وتفكر فيما كلمه به؛ فأرعوى لذلك. وقال في نفسه: لقد أسأت فيما صنعت بهذا الفيلسوف، وضيعت واجب حقه؛ وحملني على ذلك سرعة الغضب. وقد قالت العلماء: أربعةٌ لا ينبغي أن تكون في الملوك: الغضب فإنه أجد الأشياء مقتاً؛ والبخل فإن صاحبه ليس بمعذورٍ مع ذات يده؛ والكذب فإنه ليس لأحدٍ أن يجاوره؛ والعنف في المحاورة فإن السفه ليس من شأنها. وإني أتي إلى رجل نصح لي، ولم يكن مبلغاً؛ فعاملته بضد ما يستحق، وكافأته بخلاف ما يستوجب. وما كان هذا جزاءه مني؛ بل كان الواجب أن أسمع كلامه، وأنقاد لما يشير به. ثم أنفذ في ساعته من يأتيه به. فلما مثل بين يديه قال له: يا بيدبا ألست الذي قصدت إلى تقصير همتي، وعجزت رأيي في سيرتي بما تكلمت به آنفاً? قال له بيدبا: أيها الملك الناصح الشفيق، والصادق الرفيق، إنما نبأتك بما فيه صلاحٌ لك ولرعيتك، ودوام ملكك لك، قال له الملك: يا بيدبا أعد علي كلامك كله، ولا تدع منه حرفاً إلا جئت به. فجعل بيدبا ينثر كلامه، والملك مصغٍ إليه. وجعل دبشليم كلما سمع منه شيئاً ينكت على الأرض بشيءٍ كان في يده. ثم رفع طرفه إلى بيدبا، وأمره بالجلوس. وقال له: يا بيدبا، إني قد استعذبت كلامك وحسن موقعه من قلبي. وأنا ناظر في الذي أشرت به، وعامل بما أمرت. ثم أمر بقيوده فحلت. وألقى عليه من لباسه، وتلقاه بالقبول. فقال بيدبا: يا أيها الملك، إن في دون ما كلمتك به نهيةً لمثلك. قال: صدقت أيها الحكيم الفاضل. وقد وليتك من مجلسي هذا إلى جميع أقاصي مملكتي. فقال له: أيها الملك أعفني من هذا الأمر: فإني غير مضطلعٍ بتقويمه إلا بك. فأعفاه من ذلك. فلما انصرف، علم أن الذي فعله ليس برأي، فبث فرده. وقال: إني فكرت في إعفائك مما عرضته عليك فوجدته لا يقوم إلا بك، ولا ينهض به غيرك، ولا يضطلع به سواك. فلا تخالفني فيه. فأجابه بيدبا إلى ذلك. وكان عادة ملوك ذلك الزمان إذا استوزروا وزيراً أن يعقدوا على رأسه تاجاً، ويركب في أهل المملكة، ويطاف به في المدينة. فأمر الملك أن يفعل ببيدبا ذلك. فوضع التاج على رأسه، وركب المدينة ورجع فجلس بمجلس العدل والإنصاف: يأخذ للدني من الشريف، ويساوي بين القوي والضعيف؛ ورد المظالم، ووضع سنن العدل، وأكثر من العطاء والبذل. واتصل الخبر بتلاميذه فجاءوه من كل مكان، فرحين بما جدد الله له من جديد رأي الملك في بيدبا؛ وشكروا الله تعالى | |
|