الجانب الدعوي في السيرة النبوية [9/12]
د.محمد بن لطفي الصباغ
إخوتي وأخواتي
أبنائي وبناتي
ومن الدروس التي نقف عليها في قراءتنا للسيرة النبوية المطهرة (التلطف والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة).
لقد كان تلطفه صلى الله عليه وسلم ورحمته لأتباعه، ودعوته الناس جميعاً بالحكمة والموعظة الحسنة شيئاً عظيماً ذا أثر واضح في استجابة الناس لدعوته.
وهذه الأمور ينبغي أن يحققها الداعية في نفسه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو الأسوة الحسنة .
وقد أمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بذلك فقال تبارك وتعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ) [النحل: 125].
وذكر ربنا جل جلاله في وصفه صلى الله عليه وسلم أنه رؤوف رحيم، وذلك في قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ). [التوبة: 128]، وذكر تعالى أنه صلى الله عليه وسلم برحمة من الله لأن لأتباعه وكان بعيداً عن الغلظة والفظاظة فقال سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ). [آل عمران: 159]، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ). [الأنبياء: 107]، وقال سبحانه: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سبأ: 24-25].
فانظر إلى هذا التلطف في الخطاب الذي علمه إياه ربه لعلهم يتفكرون ويعرفون من هو في الضلالة ومن هو على الهدى.. وقوله تعالى (قُلْ لَا تُسْأَلُونَ..) فيه أيضاً تلطف في الدعوة ومبالغة في التواضع، حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم، وأسند العمل إلى المخاطبين.
لقد كان صلى الله عليه وسلم ليناً في تعامله رحيماً للناس.. كان كذلك مع الناس عامة، وكذلك كان في بيته.
أخرج ابن عساكر عن عمرة أنها قالت:
قلت لعائشة: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله ؟ فقالت: كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان ضحاكاً بساماً (1).
وهناك في سيرته عدد من المواقف كان فيها في غاية التلطف والحكمة وسعة الصدر، ومن ذلك موقفه من الرجل الذي قال له: إنه لا يقوى على ترك الزنا، وجاء يطلب منه أن يأذن له في ذلك، فلم يشتمه صلى الله عليه وسلم، ولم يطرده، ولم يضربه، ولكنه صلى الله عليه وسلم عالج هذا الإنسان بأسلوب تربوي غاية في التأثير والنجاح، و لنورد القصة كما جاءت في كتب السنة:
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن فتى شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا.
فأقبل القوم عليه يزجرونه وقالوا: مَهْ مَهْ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ادنُهْ "، فدنا منه قريباً فجلس.
قال صلى الله عليه وسلم: " أتحبه لأمك ؟ " قال: لا والله جعلني الله فداءك.
قال صلى الله عليه وسلم: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم "، قال: " أفتحبه لابنتك ؟ " قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا الناس يحبونه لبناتهم " قال: " أفتحبه لأختك ؟ " قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: " ولا الناس يحبونه لأخواتهم" قال: " أفتحبه لعمتك ؟ " قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: " ولا الناس يحبونه لعماتهم " قال: " أفتحبه لخالتك ؟ " قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: " ولا الناس يحبونه لخالاتهم ".
قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليه وقال: " اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه ". فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.
رواه أحمد (5/256)، والطبراني في الكبير (8/190) برقم (7679) و (7759)، والبيهقي في شعب الإيمان (10/48) برقم (5032) وفي السنن (9/161) والسلسلة الصحيحة (1 برقم 370).
هذا الحديث حديث صحيح، وفيه أسلوب في التربية رائع جداً.
فتى شاب يستأذن رسول الله في الزنا.. ويبدو أن الشاب يعرف أن الزنا حرام، ولكنه يريد أن يحصل على إذن من النبي صلى الله عليه وسلم في ممارسة هذه الفعلة المنكرة، ويبدو أنه شاب لا يحسن التصرف، فقد سأل بصوت عال، وعلى مسمع من الصحابة الذين أنكروا عليه قوله، وكان موقفهم منه الاستنكار والزجر، فقالوا له: مَهْ مَهْ.
[و مَهْ : اسم فعل أمر بمعنى اكفف، والعامة في بعض البلاد تبدل الميم لاماً فيقولون: له ]
وحقَّ لهم أن يقفوا هذا الموقف، فكيف يجرؤ فتى مسلم على أن يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الطلب ؟
والزنا من أكبر الكبائر، وقد رتب الشارع الحكيم على فعله حداً من الحدود، وهو جلد مائة جلدة وتغريب عام لغير المحصن، والرجم حتى الموت للمحصن، وقال سبحانه: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) [الإسراء: 32].
وقد وصف الله تبارك وتعالى عباد الرحمن بأوصاف عدة منها اجتناب الزنا وذلك في قوله: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) [الفرقان 68-69]
أما موقف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن منه إلا أن ناداه وقال: ادن مني، فدنا منه قريباً وجلس وأدار النبي صلى الله عليه وسلم حواراً بينه وبينه، يدل على حلمه وسعة صدره وحكمته البالغة.
فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: أتحب الزنا لأمك ؟ فأجاب الفتي: لا والله جعلني الله فداءك.
أجابه بصراحة وأدب وفداه بنفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم.
إن الناس مثلك لا يحبون هذا الفعل لأمهاتهم، ثم سأله: أتحبه لابنتك؟ أتحبه لأختك ؟ أتحبه لعمتك ؟ أتحبه لخالتك ؟ والفتى يقول: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك.
وهذه الأجوبة تدل على سلامة فطرته، وعلى محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. أجل إن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها لتكره هذا الفعل الشنيع.. كان هذا قبل أن يشوهها بعضهم بألفة المعاصي.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ولا الناس يحبونه لقريباتهم".. والمؤمن لا يكتمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وحتى يكره لهم ما يكرهه لنفسه، فمن الظلم للناس أن يأتي المرء أمراً لا يحب أن يعامله الآخرون بمثله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " رواه البخاري (13)، ومسلم (45).
هذا نموذج سامٍ للتربية، وهو: أن نجعل المرء ينظر في الأفعال التي يقوم بها، أو يريد أن يقوم بها.. كيف يكون موقفه منها لو كانت صادرة من الآخرين موجهة إليه، ونتيجة هذا النظر أن يكف عن الإتيان بها إذا كان يكرهها، ويقوم بها إذا كان يحبها.
إن هذا الأسلوب أسلوب جيد في تقويم النفس وتربيتها.. إنه مراجعة للنفس بشأن العمل قبل الإتيان به.. وهو يجعل المرء يأتي بالأمر الخيّر عن اقتناع واندفاع ذاتي، ويحجم عن الأمر السيئ عن اقتناع أيضاً وعزوف ذاتي، وهذا مستوى سام من التربية.
وفي هذا الحديث درس مهم جداً: وهو أننا مطالبون – إذا أردنا أن نصل في تربيتنا لمن حولنا إلى نتيجة إيجابية – أن يتسع صدرنا لهؤلاء الذين نتولى تربيتهم ومطالبون ألا نقابلهم بالتوبيخ والتقريع والشتم والعنف.. فكل هذا لا يؤدي إلى نتيجة.. وما أروع قول النبي الكريم: " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه " رواه مسلم (2594). وقوله: " إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف " رواه مسلم (2593).
وهل هناك أشد إثارة من أن يأتي فتى إلى عالم أو داعية أو مربّ فيطلب منه مثل هذا الطلب ؟
ولكن الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم لم يثر كما ثار الصحابة، وكما يثور كثير من علمائنا اليوم لو ووجهوا بمثل هذا الطلب.. بل أسداه وقربه إليه، و حاوره وأقنعه.. وقد استقام أمر الفتى على الحق.. ولو كان الموقف غير ذلك لذهب الفتى في طريق الغواية إلى آخر مدى، ولكانت عاقبة أمره الهلاك.
والدعاء أمر مهم، فبعد أن انتهى الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا الحوار النافع الذي أجراه وضع يده عليه.. وفي هذه الحركة مزيد عناية بالفتى، وتودد إليه ثم دعا الله أن يغفر ذنوبه الماضية، ويطهر قلبه من الرغبات المخالفة للشرع ويحصن فرجه.
ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب. قال الراوي: فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
بقلم الأستاذ الدكتور محمد بن لطفي الصباغ
جزاه الله خيرا وجعله في موازيين حسناته