الجانب الدعوي في السيرة النبوية
[7/12]
التخطيط :
مازلت أقرّر الدرس الذي ينبغي أن يعرفه الدعاة من السيرة، وأن يعملوا به، ألا وهو التخطيط اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإنّه صلى الله عليه وسلم عندما رأى إعراض قريش عن الحق، وتكذيبها لدعوته، وصدّها عن سبيل الله، اتّجه إلى عرض نفسه على قبائل العرب في المواسم .. وكانت العقبة الأولى التي تحدثنا عنها آنفاً الخطوة الأولى في إعداد المُهاجَر: المدينة المنورة، لتكون الأرض التي يقيم عليها دولة الإسلام ومجتمعه .. وقد نجح مصعب بن عمير رضي الله عنه في دعوته، ودخل الناس في دين الله أفواجاً .. فلمّا كان العام الذي يلي البيعة الأولى قدم مكة كثير من أهل يثرب منهم مؤمنون، ومنهم مشركون يريدون الحجّ .
فقابل وفد منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلبوا اللقاء معه، واتفقوا على أن يكون اللقاء بعد الانتهاء من الحج عند شِعب العقبة، فأوصاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتموا أمر هذا اللقاء عن رفاقهم المشركين الذين جاؤوا معهم، خشية أن تعلم قريش فتفسد الأمر .
وقد تجمعوا بعد الانتهاء من الحج بعد ثلث الليل الأول، وكان عددهم ثلاثة وسبعين رجلاً: اثنان وستون من الخزرج، وأحد عشر من الأوس، ومعهم امرأتان هما: نسيبة بنت كعب من بني النّجار، وأسماء بنت عمرو من بني سلمة.
وذهب إليهم رسول الله ومعه عمّه العباس وهو على دين قومه، ولكنه أراد أن يحضر الجلسة ليتوثق لابن أخيه .
فلما اجتمعوا قال العباس: إن ابن أخي مازال في مَنَعة من قومه، ولم يستطيع أحدٌ من أعدائه أن ينال منه، وقد تحملنا من ذلك شدّة عظمى، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممّن خالفه فأنتم وما تحمّلتم من ذلك، وإلاّ فدعوه بين عشيرته فإنهم لبمكان عظيم .
فقام البراء بن معرور، وتكلّم كلاماً طيّباً جدّاً .
ثم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ لنفسك ولربك ما أحببت.
فقال صلى الله عليه وسلم: " أشترط لربّي أن تعبدوه وحده، ولا تشركوا به شيئاً، ولنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم متى قدمت عليكم".
فقال له أبو الهيثم بن التّيّهان: يا رسول الله . إنّ بيننا وبين الرجال عهوداً، وإنّا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟
فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " بل الدم الدم، والهدم والهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم " .
أي إن طالبتم بدم طالبت به، وأن أهدرتموه أهدرته .
وابتدأت المبايعة وهي التي عرفت بالعقبة الثانية، فبايعه الحاضرون على ما طلب، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخْرِجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم " فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس .
ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي " .
قال العلاّمة محمد الخضري :
[ولأمر ما أراده الله بلغ خبرُ هذه البيعة مشركي قريش، فجاؤوا ودخلوا شِعب الأنصار وقالوا: يا معشر الخزرج، بلغنا أنكم جئتم لصاحبنا تخرجونه من أرضنا، وتبايعونه على حربنا ؟ فأنكروا ذلك، وصار بعض المشركين الذين لم يحضروا المبايعة يحلفون لهم أنهم لم يحصل منهم شيءٌ في ليلتهم، وعبد الله بن أبيّ كبير الخزرج يقول: ما كان قومي ليفتاتوا عليّ بشيء من ذلك] (1)
قال العلاّمة محمّد الغزالي :
[تلكم بيعة العقبة، وما أبرم فيها من مواثيق، وما دار فيها من محاورات.. إنّ روح اليقين والفداء والاستبسال سادت هذا الجمع وتمشّت في كلّ كلمة قيلت، وبدا أنّ العواطف الفائرة ليست وحدها التي توجّه الحديث أو تملي العهود، كلاّ، فإن حساب المستقبل روجع مع حساب اليوم، والمغارم المتوقّعة نُظر إليها قبل المغانم الموهومة .
مغانم ؟ أين موضع المغانم في هذه العقبة ؟؟
لقد قام الأمر كله على التجرّد المحض، والبذل الخالص .
هؤلاء السبعون، مُثُلٌ لانتشار الإسلام عن طريق الفكر الحرّ، والاقتناع الخالص ..
فقد جاؤوا من يثرب مؤمنين أشدّ الإيمان، وملبّين داعي التضحية، مع أنّ معرفتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم كانت لمحة عابرة، غبرت عليها الأيام، وكان الظن بها أن تزول .
لكنّنا لا يجوز أن ننسى مصدر هذه الطاقة المتأججّة من الشجاعة والثقة . إنه القرآن !
لئن كان الأنصار قبل بيعتهم الكبرى لم يصحبوا الرسول إلاّ عاماً إنّ الوحي المُشَعّ من السماء أضاء لهم الطريق وأوضح لهم الغاية ..
لقد نزل بمكة قريب من نصف القرآن، سال على ألسنة الحفّاظ، وتداولته صحائف السفرة الكرام البررة، والقرآن النازل بمكة صوّر جزاء الآخرة رأي العين .
فتوشك أن تمدّ يدك، تقطف من أثمار الجنّة، ويستطيع الأعرابي المتعشق للحق أن ينتقل في لحظة فداء من رمضاء الجزيرة إلى أنهار النعيم والرحيق المختوم.
وحكى القرآن أخبار الأولين، وكيف أخلص المؤمنون لله فنَجوْا مع رسلهم، وكيف طغى الكفار وأسكرهم الإمهال فتعنتوا وتجبّروا، ثم حلّ العدل الإلهي فذهب الظالمون بدداً، وتركوا وراءهم دنيا مدبرة، ودوراً خربة .
فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم *** كباطل من جلال الحق منهزم
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل من هذا الإيمان بالحقّ رباطاً يعقد من تلقاء نفسه صلة الحب والتناحر بين أشتات المؤمنين في المشرق والمغرب .
فالمسلم في المدينة – وإن لم ير أخاه المستضعف في مكة – يحنو عليه، ويتعصب له، ويغضب من ظالمه، ويقاتل دونه ...] (2).
إنها خطة محكمة طويلة المدى .. وقد أثمرت مراحلها، ونجحت في تحقيق قيام الدولة الإسلامية .
وجدير الدعاة إلى الله أن يلتزموا بهذا الدرس الدعوي، وفقنا الله وإياهم إلى الخير، والحمد لله رب العالمين .