الجانب الدعوي في السيرة النبوية
[6/12]
إنّ السيرة النبوية لتبيّن للدعاة إلى الله أنّ من الصفات الأساسية التي عليهم أن يتصفوا بها التخطيط .. وأن على الداعية أن يصدر في أعماله كلها عن خُطَّة مدروسة اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ضربنا لذلك مثلاً في الحلقة السابقة ما فعله صلى الله عليه وسلم، من التخطيط المحكم لهجرته إلى المدينة المنورة.
ومن التخطيط الذي تطالعنا به السيرة النبوية أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يترك فرصة ولا مجالاً للدعوة إلا سلكه .. فلمّا قوبل من قومه بالإيذاء والتكذيب والإعراض ، والعناد وتعذيب أصحابه ، حتّى بلغ بهم الأمر أن يهموا بقتله، شرع صلى الله عليه وسلم يبحث عن مجال آخر ، فذهب إلى الطائف، وعمد إلى نفرٍ من ثقيف ، فدعاهم إلى الله ، فلم يقبلوا دعوته ، بل أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويصيحون به.. فلجأ إلى بستان هناك وقال : " اللهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي ، وقلّة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدوّ ملّكته أمري؟ إنْ لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن تنزل بي غضبك أو يحلّ عليّ سُخْطك . لك العتبى حتّى ترضى، و لا حول ولا قوة إلا بك".
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة وقومه أشدّ ما كانوا عليه من العداء ومفارقة دينه إلا قليلاً ممّن آمن به من المستضعفين ، فكان صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب في المواسم يدعوهم إلى الله ، ويخبرهم أنه نبيّ مرسل ، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتّى يبيّن لهم ما بعثه الله به .
وفي " سيرة ابن هشام " تفصيل لتلك القبائل التي عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عليها . فمن ذلك النص الآتي :
( قال ربيعة بن عباد الديلي : إني لغلامٌ شابٌ مع أبي بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول :
" يا بني فلان إني رسول الله إليكم ، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وأن تؤمنوا بي ، وتصدقوا بي ، وتمنعوني حتّى أبيّن عن الله ما بعثني به" .
قال : وخلفه رجل أحول وضيء ، له غديرتان ، عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا له ، قال ذلك الرجل : يا بني فلان إنّ هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزّى من أعناقكم ، وحلفاءكم من الجن ... إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه .
فقلت لأبي : يا أبت من هذا الذي يتبعه ويردّ عليه ما يقول ؟
قال : هذا عمّه عبد العزّى بن عبد المطلب، أبو لهب) (1).
• وعرض نفسه على بني كلب، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم .
• وأتى بني حنيفة فدعاهم إلى الله، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردًّا منهم .
• وأتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله، وعرض نفسه عليهم فردّوه.
• وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كّلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام، ويعرض عليهم نفسه، وما جاء به من الله من الهدى والرحمة ، وهو لا يسمع بقادم يَقْدَمُ مكة من العرب له اسم وشرف إلاّ تصدَّى له ، فدعاه إلى الله ، وعرض عليه ما عنده .
• ومازال الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم يعمل وفق هذه الخطة ، ولا يداخله اليأس على الرغم ممّا كان يلقى من الإعراض والصدّ .. حتى خرج في الموسم على عادته يدعو ويعرض نفسه على القبائل .. فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج .
فقال لهم : " من أنتم ؟ " .
قالوا : نفر من الخزرج .
قال : " من موالي يهود ؟ " .
قالوا : نعم .
قال : " أفلا تجلسون أكلمكم ؟ " .
قالوا : بلى .
فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجلّ ، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن ... فلمّا كلمهم رسول الله ودعاهم قال بعضهم لبعض : يا قوم والله إنّه للنبّي الذي تتوعّدكم به اليهود ، فلا تسبقنّكم إليه . فأجابوه وصدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام . ودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم إلى المدينة .. ثم انصرفوا إلى بلادهم .
فلمّا قدموا المدينة ذكروا لقومهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام حتّى فشا فيهم ، فلم تبق دار من دور الأنصار إلاّ وفيها ذكرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوا رسول الله بالعقبة – وهي العقبة الأولى – فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، وذلك قبل أن تفرض الحرب عليهم .
وبيعة النساء هي الواردة في سورة الممتحنة، وذلك في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الممتحنة:12].
قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه :
كنت فيمن حضر العقبة الأولى وقد بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، وقال : فإن وفيتم فلكم الجنّة ، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأخذتم بحدّه في الدينا فهو كفّارة له ، وإنْ سُيرتُم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله عز وجلّ إن شاء عذّب ، وإن شاء غفر(2).
وأرسل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير العبدري، وعبد الله بن أم مكتوم – وهو ابن خالة خديجة – يقرآنهم القرآن، ويفقهانهم في الدين .
وكان مصعب رضي الله عنه رجلاً حكيماً يعرف كيف يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وحسن التأتي ، وقد سبق له أن هاجر إلى الحبشة وعاد ..
ونزل مصعبٌ على أبي أمامة أسعد بن زرارة ، وصار يدعو إلى الله الناس جميعاً من الأوس والخزرج وغيرهم ، ويبدو أنه نجح في الدعوة، واستجاب له الجم الكثير .
وبينما هو في بستان مع أسعد بن زرارة فوجئ بدخول رجل قوي يريد الإساءة إليه .
ذلك أن سعد بن معاذ رئيس قبيلة الأوس قال لابن عمه أُسيد بن حُضير : ألا تقوم إلى هذين الرجلين – يريد مصعباً وابن أم مكتوم – اللذين أتيا يسفّهان ديننا ، ويغريان الضعفاء من قومنا بالدخول في دينهما، فقم وازجرهما .
فاستجاب أُسيد لدعوة سعد ، وقام يحمل حربته، وجاء إلى البستان الذي فيه مصعب .. فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب : هذا سيد قومه ، وقد جاءك فاصدق الله فيه ، فلما وقف عليهما قال : ما جاء بكما تُسفّهان ضعفاءنا؟ اعتزلا إن كان لكما بأنفسكما حاجة .
فقال مصعب : أو تجلس فتسمع ، فإن رضيت أمراً قبلته ، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره .
فقرأ عليه مصعب القرآن ، فاستحسن دين الإسلام ، وهداه الله وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ورجع إلى سعد ، فسأله سعد عمّا فعل .
فقال : والله ما رأيت بالرجلين بأساً .
فغضب سعد، وقام لهما متغيظاً ، ففعل معه مصعب كسابقه ، فهداه الله للإسلام أيضاً .
ورجع سعد لرجال من بني الأشهل – وهم أهله وهم بطن من الأوس – فقال لهم : ما تعدّونني فيكم ؟
قالوا : سيدنا وابن سيدنا .
فقال : كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تسلموا .
فلم يبق بيت من بيوت بني عبد الأشهل إلا أجابه .
ولمّا كان وقت الحج في العام الذي يلي البيعة الأولى قدم مكة كثيرون منهم.
وهكذا نجحت خُطَّة الرسول العظيم في دعوته .