الجانب الدعوي في السيرة النبوية
[5/12] إنّ جانب الدعوة إلى الله في السيرة النبوية يشمل السيرة كلها ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد ومبشر ونذير وداعٍ إلى الله .. بل هو إمام الدعاة وسيدهم صلوات الله وسلامه عليه يقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) [الأحزاب 45-46] .
عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة . فقال عبد الله : أجل ، إنّه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) وحرزاً للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سمّيتك المتوكل ، لست بفظٍّ ولا غليظ ، ولا سخّاب في الأسواق ، ولا يدفع السيئة بالسيئة ، ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتّى يقيم به الملّة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، فيفتح به أعيناً عُمياً ، وآذاناً صُمّاً ، وقلوباً غُلفاً " . رواه البخاري برقم (4838)، وأحمد (2/174) .
وهذا وصف ينطبق عليه صلى الله عليه وسلم ، هذا وقد روى ابن أبي حاتم -ونقله عنه ابن كثير في تفسيره - هذه الآية نصاً جميلاً عن وهب بن منبّه معناه صحيح نورده هنا لصحة معناه ، ودقة وصفه لسيدنا رسول الله الداعية الرسول ، قال وهب : إنّ الله أوحى إلى نبيّ من أنبياء بني إسرائيل : ... أَبعثُ أميّاً من الأمّيّين ، أبعثه مبشراً ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق ، لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته ، ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه ، أبعثه مبشراً ونذيراً ، لا يقول الخنا ، أفتح به أعيناً كُمهاً ، وآذاناً صمّاً ، أسدّده لكلّ أمر جميل ، وأهب له كلّ خلق كريم ، وأجعل السكينة لباسه ، والبر شعاره ، والتقوى ضميره ، والحكمة منطقه ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والمعروف خلقه ، والحق شريعته ، والعدل سيرته ، والهدى إمامه ، والإسلام حلّته ، وأحمد اسمه ، أهدي به بعد الضلالة ، وأعلّم به بعد الجهالة ، وأرفع به بعد الخمالة ، وأعرّف به بعد النَّكرة، وأكثر به بعد القلة ، وأغني به بعد العيلة ، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلّفُ به بين أمم متفرقة ، وقلوب مختلفة، وأهواء مشتّتة ، وأستنقذ به فئاماً من الناس عظيمة من الهلكة ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، موحدين مؤمنين مخلصين ، مصدقين لما جاءت به رسلي ، ألهمهم التسبيح والتحميد ، والثناء والتكبير والتوحيد ، في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم يصلّون لي قياماً وقعوداً ، ويقاتلون في سبيل الله صفوفاً وزحوفاً ، ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي أُلوفاً ، يطهرون الوجوه والأطراف ، ويشدون الثياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم ، وأناجيلهم في صدورهم ، رهبانٌ بالليل ، ليوثٌ بالنهار ، وأجعل في أهل بيته وذريته السابقين والصديقين والشهداء والصالحين ، أمته من بعده يهدون بالحق ، وبه يعدلون ، أُعزُّ من نصرهم ، وأؤيّد من دعا لهم، وأجعل دائرة السوء على منْ خالفهم أو بغى عليهم ، أو أراد أن ينتزع شيئاً ممّا في أيديهم ، أجعلهم ورثة لنبيهم ، والدعاة إلى ربهم ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، ويوفون بعهدهم ) . [انظر تفسير ابن كثير . سورة الأحزاب الآيتان ( يا أيها النبي إنا أرسلناك ) الآية] .
إنه نص جميل ـ وردت فيه جملة من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوية ، وورد فيه ذكر لفضله العظيم على أمته التي هداها الله به ، فكان فيها بفضل الاقتداء به صفات الدعاة الصادقين .
أجل إنّ السيرة النبوية تمثل التطبيق العملي لمبادئ الإسلام ، على يد نبي الله وخير خلقه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .
إننا نجد في أحداثها المشرقة الكريمة مبادئ الإسلام حيَّةً متحركة ... إنَّ الكلام النظريّ المجرد قد يقنع الفكر عندما يكون حقاً ، وعندما يكون عرضه موفًّقاً ، وعندما يكون السامع على مستوىٍ جيد من الفهم والإدراك ، ولكنه لا يولّد في المرء الحماسة ، ولا يحدث التعاطف والاندفاع لتحقيق مضمون هذا الكلام ، أمّا عندما يدعم هذا الكلام النظريّ واقعٌ حيٌّ تجسّدت فيه مبادئ هذا الكلام ، وبرز ما فيه من مُثُلٍ بين ظهراني الناس يبصرونها ويعايشونها ، فإنّ ذلك يفعل في النفس فعل السحر ويدفعها إلى تحقيق الخير ، وتنحية الشر ، وإحقاق الحق ، وإزهاق الباطل .
نعم .. إنّ السيرة النبوية سدّت ثغرة في هذا المجال لا يسدّها غيرها .. ذلك لأنّ عرض مبادئ الإسلام وعرض النظرات الإسلامية في شتى جوانب الحياة بعيداً عن الواقع يُفوّت على الناس أن يدركوا سرّاً من أسرار هذه الشريعة ، وخاصة من خصائصها .
إنّ هذه الشريعة هي النظام الوحيد الذي يجمع بين الواقعية والمثالية، وإنها هي الحل الوحيد لعلاج مشكلات الإنسان المادية والمعنوية .
إن إدراك هذه الخاصة ينتهي بالإنسان إلى الاعتقاد الجازم أن هذه الشريعة منزلة من عند الله دون شك ، ويجعله يدرك عظمة هذه الشريعة في مجال الفكر والخُلُق والاقتصاد والسياسة والعبادة والتشريع .
إنّ دراسة السيرة وتمثلها واستيعابها يكفل إيضاح الوسط الروحي السامي الذي قامت فيه المبادئ الإسلامية حية متحركة ، ونهضت اعتماداً عليها حضارة ودولة وفي ذلك تقويم وتربية وعون على التأسي والاقتداء .
إن السيرة النبوية تبيّن الصفات الأساسية المهمة التي ينبغي أن تكون في الداعية وهذه الصفات كثيرة نذكر منها ما يأتي :
1- العلم : فلقد كان صلى الله عليه وسلم يعلّم أصحابه أحكام الدين ، ويدعوهم إلى التعلّم بالقول والفعل :
فمن قوله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى التعلم :
قوله صلى الله عليه وسلم : "طلب العلم فريضة على كل مسلم " رواه ابن ماجه برقم (224) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً ، سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة ... " رواه مسلم برقم (2699)، وأبو داود برقم (4946) ، والترمذي برقم (1930).
وقوله صلى الله عليه وسلم : " العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر " . رواه أبو داود برقم (3641) ، والترمذي برقم (2682) ، وابن ماجه برقم (223) ، وأحمد برقم (5/196).
ومن فعله صلى الله عليه وسلم تحقيق ذلك وحضّه على تعلّم الصلاة عملياً كما جاء في الحديث : " صلوا كما رأيتموني أصلي " رواه البخاري برقم (6008) ، وتعلم مناسك الحج عملياً كما جاء في الحديث: " خذوا عني مناسككم " رواه مسلم برقم (1297) ، وأبو داود برقم (1970) ، وحضّه على تعلّم الكتابة والقراءة كما جاء في حادثة فداء الأسرى فقد روى أحمد(1) بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة .
2- التخطيط : تعلمنا السيرة أن على الدعاة أن يصدروا في أعمالهم عن تخطيط، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطط ويحكم التخطيط، فمن ذلك ترتيبه الهجرة .
لقد خطّط رسول الله صلى الله عليه وسلم لهجرته إلى المدينة ، ورسم الخطة ، وحدّد الوقت ، وأعّد العدّة من الدليل، والزاد ، والراحلة على النحو الذي تذكره كتب السنّة ، وكتب السيرة .
لما اشتد الأذى على المسلمين في مكّة ، وأصبح لهم مُهاجَر في المدينة بعد أن ظهر الإسلام شرَع أفراد من المسلمين يهاجرون إليها بصورة فردية ، وقد أراد سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يهاجر ، فلما علم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم استبقاه وأشعره أنه ربما سيكون صاحبه في هذه الرحلة .. فاستعد أبو بكر لذلك ، فاشترى راحلتين وشرع يعلفهما، ولم يرض النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يدفع ثمن الراحلة التي سيركبها...
ولما جاءه الإذن من الله بالهجرة أتى سرّاً إلى بيت أبي بكر وأخبره بعزمه على الهجرة، فطلب أبو بكر الصحبة فوافق النبي صلى الله عليه وسلم وفرح أبو بكر رضي الله عنه فرحاً شديداً حتى صار يبكي من الفرح .
ولإحكام الخطة أمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه أن يبيت مكانه كي لا يقع الشك في وجوده ، ذلك أن المشركين كانوا يحاصرون البيت يريدون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد تعاهدوا أن ينقضّوا عليه إذا خرج ويضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد كي يضيع دمه في القبائل ، فكانوا يرددون النظر من خلال شقوق في الجدار ، وكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً أن يؤدي الأمانات إلى أهلها.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده من مكة ليلاً، وتقابل مع الصّديق خارج مكة ، وانطلقا .
وكان استأجر عبد الله بن أريقط ، وهو رجل خبير بالطرق ليدلَّهما على الطريق ، وأعطاه الراحلتين وواعده غار ثور بعد ثلاث ليال .
وانطلق صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه ومعهما عامر بن فهيرة الذي كان يتبعهما بغنم كي يخفى على أثرهما.
وأعدّ صلى الله عليه وسلم لهذه الرحلة عدتها من الزاد، فوضع في جراب، وقطعت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه نطاقها وربطت به على فم الجراب .
وأقاما في الغار ثلاث ليال حتى ينقطع عنهما الطلب ، وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت معهما ، ثم يقوم من آخر الليل ويعود إلى مكة فيصبح بها ليقف على كيد المشركين ثم يأتي الغار في المساء ويذكر لهما ما سمع من القوم .
وهذا التخطيط لا يتعارض مع التوكل على الله ، ذلك لأن الأخذ بالأسباب مطلوب ، ثمّ بعد ذلك يكون التوكل على الله ، وقد قال رسول الله صلى عليه وسلم لمن سأله أيعقل ناقته أم يتوكل على الله ويتركها هكذا : فقال صلى الله عليه وسلم : " اعقلها وتوكل " . رواه الترمذي برقم (2517).
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين ، وقد خطّط هذا التخطيط العظيم لرحلة الهجرة ، إنّ هذا درس للدعاة إلى الله .. إن عليهم أن يصدروا في برامجهم الدعوية عن تخطيط مدروس محكم اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يجوز أن تكون أعمالهم ردود فعل لما يفعله الأعداء المخالفون فقط ، بل عليهم أن يكون عملهم قائماً على الخطة التي وضعوها بعد معرفة الواقع والظروف التي يعيشون فيها . وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .