الجانب الدعوي في السيرة النبوية
[4/12]
إن تأثير الشخصية الفذة في الناس أمر ملموس مقرر، لا يختلف فيه اثنان من العقلاء، وإن للشخصية الكبيرة، وللزعيم الكبير دوراً عظيماً في انتشار الدعوات، وإقامة الدول، وذيوع المبادئ التي تحملها هذه الشخصية وذاك الزعيم . ولا نستطيع أن نفصل بين عناصر القوة والنجاح في الفكرة ذاتها، وبين حاجتها إلى الزعيم العظيم الذي يجمع القلوب عليها .
فالقوة الكبيرة تأخذ بألباب الجماهير، والبيان ساحر لأفراد الأمة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحراً "، والخلُق الكريم يجذب الناس إلى صاحبه .
بل إنّ الدعوات التي تقوم على أساس إنكار خصائص الفرد، وعلى إذابة كيانه في بوتقة المجتمع لم يكن لها بدٌ من اتخّاذ الشخصيات والزعماء على نحو يفوق الحركات الاستبدادية حتى استطاعت أن تأخذ طريقها إلى النجاح المؤقت .
وهكذا فإنّه يبدو لدارس الحركات الاجتماعية والحركات السياسية عظم شأن الشخصية القيادية في الدعوات مهما كانت حقيقة هذه الدعوات .
إنّ من فضل الله علينا وعلى الدنيا كلها أنّ دعوة الإسلام اجتمع فيها صوابُ الفكرة، وعظيمُ صلاحيتها للحياة، وحيازتُها لجميع عناصر القوة والنجاح، والشخصية العظيمة: شخصية سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم أبطال الإنسانية على مرّ العصور، نقول هذا معتمدين على كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يقول ربنا تبارك وتعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) [التوبة:128] .
ويقول الله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) [الأعراف:156 –157].
ويقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ) [الأحزاب:45-46] .
ويقول الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].
وقد شهد بذلك معاصروه ومعاشروه ومن جاء بعدهم من أتباعه ومخالفيه، أجل لقد شهد بذلك ناس لا يشاركوننا الدين .
وقد أُلّفت مؤلفات جَمعت أقوال هؤلاء، ويحسن أن نذكر أنَّ بعض هؤلاء كانوا من ألدّ أعداء الإسلام، ولكنهم لم يستطيعوا إلاّ أن يعترفوا بعظمة هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
من هذه الكتب: كتاب أصدره الشيخ أحمد بن حجر (قاضي قطر) بعنوان: " الإسلام والرسول في نظر منصفي المشرق والغرب " الطبعة الأولى 1397هـ .
ومن ذلك كتاب أصدرته جمعية التمدن الإسلامي بدمشق بعنوان: "النبي صلى الله عليه وسلم، كلمات بأقلام نخبة من الباحثين والأدباء المسيحيين المنصفين" طبع في مطبعة الترقي بدمشق 1384هـ 1964م .
ومن ذلك كتاب أصدره الشيخ حسين عبد الله باسلامة بعنوان: "الإسلام في نظر أعلام الغرب ".
ومن ذلك ما أصدرته الندوة العالمية بعنوان: " قالوا عن الإسلام " إعداد عماد الدين خليل .
***
لقد اجتمعت - بحمد الله وفضله – لدعوة الإسلام كل عوامل النجاح، فكتب الله لها ولحملتها الفوز والغلبة، ومن أهم هذه العوامل توفيق الله وتأييده وشخصية الزعيم العظيم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن هنا علينا أن نتعرّف إلى هذه الشخصيّة العظيمة، وذلك بالوقوف على سيرته الشريفة صلوات الله وسلامه عليه، وأن نعمل على أن تبقى توجيهاته القيمة التي نقلت إلينا في السنة المطهرة حيّة في ضمائرنا وعقولنا، وتكون هادية لنا في مسيرة الحياة .
ولن تجد الناس في دنيا البشر بطلاً أو زعيماً يوازي سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم، أو يستطيع أن يقترب من الذروة السامقة التي تبوأها صلى الله عليه وسلم ... لقد صنعه الله على عينه، وأحاطه برعايته وعنايته وتأييده، وأكرمه بالنبوة والرسالة لقد اجتمع في شخص هذا الزعيم المفدّى صلوات الله وسلامه عليه الشرف الرفيع، والخلُق الزكي، والنبوة والرسالة، والعظمة والأصالة .
إنً سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم صفحة مشرقة في تاريخ الإنسانية قاطبة، ارتفعت الإنسانية به إلى مستوى سامٍ راقٍ لم يتح لها أن تبلغه بأحد من الناس قبله، ولن تبلغه بأحد بعده أبداً .
لقد عدت سيرته صلى الله عليه وسلم منارة تُطل على قافلة البشرية الحائرة القلقة المشرفة الآن على الانهيار بسبب اندفاعها وراء الشبهات والشهوات، منارة تناديها وتضيء لها سبل الهدى والطهر والاستقامة .
وسيرته صلى الله عليه وسلم هي التطبيق العملي لمبادئ الإسلام، تجد تلك المبادئ حيّة فيما تطلع عليه من أحداث تجلّى فيها المثل الأعلى للحياة السامية، تتوازن فيها دواعي المادة والروح، والدين والدنيا توازنا لا يجور فيه جانب على جانب .
من أجل ذلك كله كانت دراسة السيرة النبوية ضرورة لا بُدّ منها للداعية المسلم .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة والقدوة المثلى للمسلمين عامة وللدعاة خاصة . يقول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21] .
ولا يتمّ التأسّي به ما لم تتضح معالم سيرته في أذهان المعتدين والمرشدين .
إنّ عرض الداعية أحداث في مجال الدعوة يبين أن هذه الأحكام الشرعية والمبادئ الإسلامية التي تضمنتها قامت حقائق ملموسة في واقع الحياة في حقبة سعيدة من الزمان في حياة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وكانت أكرم حقبة عرفها التاريخ .
إن السيرة النبوية تكفل لنا إيضاح الوسط الروحي المتألق الذي عاشت فيه هذه المبادئ الإسلامية، وتبين كيف انطلقت في حركتها السريعة تسود الدنيا المعمورة في وقت قصير قصير .
إنّ السيرة تبث الحيوية في الدعوة، وتوقظ في الناس الروح الدينية الكريمة، وتخلص الدعوة من الجفاف والنظرية .
إن واقع المسلمين اليوم مؤلم لبعدهم عن حقيقة دينهم، وهم بحاجة إلى إصلاح يتغلغل إلى أعماق قلوبهم، فيبدّل ما في نفوسهم وأذهانهم .
وإنّ بشائر الخير، وأمارات التقدّم، تبدو بين حين وآخر باعثة على الأمل، وتحيي موات القلب، وتنشط الهمة، وتحفز إلى العمل، وتنتظر هذه البشائر من يدفعها ويرشدها ويأخذ بيدها، هذا ومن أهم وسائل بعث الأمم المتخلفة، وبث الحياة في كيانها الضعيف، ونفض غبار التأخر والكسل عنها، وإيجاد اليقظة الواعية البنّاءة، ونشر صفحات الماضي المجيد لهذه الأمم، وإحياء بطولاتها في أذهان أبناء الأمة وناشئتها، وحضهم على متابعة السعي وبذل الجهد لاستكمال ما بنى الآباء والأسلاف، وإذا أردنا أن ننظر في أمجادنا وبطولاتنا فلن نجد مثل السيرة النبوية في هذا المجال على الإطلاق .
ولذا فإنّ على رجال الفكر، وأرباب القلم، أن يُولوا السيرة النبوية ما تستحق من الاهتمام والدراسة – عليهم أن يقدموها للناس بأسلوب سائغ مؤثر جذاب – بالمحاضرات والخطب والدروس والمقالات، والأحاديث الإذاعية والندوات التلفزيونية وبالأسلوب القصصي، ويستخدموا لذلك كل وسائل النشر الممكنة .
قال عبد الرحمن عزام: "من الأبطال من احتازوا باتساع دائرة تأثيرهم وسلطانهم ... أولئك هم المبرزون في تاريخ الإنسانية، وأولئك هم الذي كان لإصلاحهم الخلود والأثر الباقي، وأعظم هؤلاء هو محمد صلى الله عليه وسلم " . [بطل الأبطال ص5]