الجانب الدعوي في السيرة النبوية
[2/12] إن السيرة النبوية سجلت أحداث حياة أعظم شخصية عرفها البشر، وأكرم رسول من رسل الله صلوات الله عليهم أجمعين.
ومن حسن حظنا وحظ الإنسانية أن نُقلت لنا أحداث حياته صلى الله عليه وسلم على وجه لا نعرفه في حياة إنسان آخر.
وهو صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، والقدوة الفاضلة للمؤمنين. قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) [الأحزاب:21].
وما أشد حاجة المسلمين اليوم إلى أن يتذكروا ما جاء في سيرته صلى الله عليه وسلم ليقتدوا به ويعملوا بما جاءهم به من عند الله من الهدى والحق والخير، فواقعهم واقع مؤلم، وكيد الكفرة ضدهم متعاظم في كل مكان.
وسيكون حديثنا عن الجانب الدعوي في السيرة النبوية الشريفة إن شاء الله في حلقات، وهذا يدعونا إلى أن نحدد المراد من الدعوة لغة واصطلاحاً.
الدعوة لغة:
قال ابن فارس في " المقاييس ":
[الدال والعين والحرف المعتّل أصل واحد، وهو أن تميل الشيء إليك بصوت وكلام منك. تقول: دعوت أدعو دعاءً].
وقال الفيومي في " المصباح المنير ":
[دعوت الله أدعوه دعاءً: ابتهلتُ إليه بالسؤال، ورغبت فيما عنده من الخير، ودعوت زيداً: ناديته وطلبت إقباله. ودعا المؤذن الناس إلى الصلاة، فهو داعي الله. والجمع دعاة وداعون.. والنبي داعي الخلق إلى التوحيد].
وقال الراغب في " المفردات ":
[والدعاء إلى الشيء: الحثُّ على قصده.. قال تعالى: (والله يدعو إلى دار السلام) [يونس:25] وقال: (يا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار) [غافر:41-42].
والدعاء عند علماء البلاغة نوع من أنواع الطلب، وذلك عندما يكون من الأدنى إلى الأعلى، وأما الأمر فهو طلب الفعل على وجه الاستعلاء أي يكون من الأعلى إلى الأدنى، وإذا كان من المثل إلى مثله فهو الالتماس.
[إنّ موضوع الدعوة إلى الله موضوع يحتاج إلى أن يعالج من قبل رجالات كبار، يملكون طاقات ضخمة ومواهب فذة، ومعرفة واسعة.. ولا يجوز أن تقابل الحركات الهدامة بروح اللامبالاة التي صار إليها بعض الدعاة بسبب الإحباط الذي أصيبوا به نتيجة للنكبات المتوالية التي وجّهت إلى كثير من الدعاة في عدد من البلاد.
لا بُدَّ من ظهور دراسات عميقة وافية تعالج الواقع الذي يحياه المسلمون، وأوضاع مجتمعهم التي تتبدل حينا بعد حين، إنّ معرفة العصر وتياراته والواقع الاجتماعي والسياسي القائم، والتخطيط وَفْق هذه المعرفة ضرورة من ضرورات الدعوة التي تطمح إلى النجاح].
الدعوة في الاصطلاح:
الدعوة في الاصطلاح دعوة الناس إلى الالتزام بشرع الله. والدخول في دينه. وتكون بالقول والكتابة والمعاملة الحسنة والقدوة..
والدعوة إلى الإسلام تعتمد على المصدرين الأساسيين في الشريعة وهما الكتاب والسنة.
والكتاب: هو القرآن الكريم، وهو كلام الله المعجز ووحيه المنـزل على عبده ورسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم المكتوب في المصاحف والمنقول بالتواتر والمتعبد بتلاوته.
والسنة: هي أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وأوصافه وهي كلّها أمور متصلة بحياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
ولذا فلا بدّ للداعية من أن يجدّ في إعداد نفسه بدراسة أمور كثيرة وأخذ نفسه بسلوك مستقيم.
لابد له من دراسة ما يتصل بالقرآن الكريم والاطلاع على تفسيره ومعرفة علومه. ودراسة ما يتصل بالحديث الشريف وبالفقه وأصوله. ومن أهم الأمور التي تعينه على عمله في الدعوة السيرة النبوية، وكذلك معرفة جيدة باللغة العربية.
وواضح أن مضمون الدعوة الإسلامية أمور متعددة من أهمها العقيدة السليمة، والعبادات، والحضُّ على الوقوف عند حدود الله في كل أمر من المعاملات الخاصة والعامّة، والتخلّق بالأخلاق الفاضلة.
وللدعوة وسائل وآداب، فالكلمة المقولة والمكتوبة من أهمّ وسائل إيصال الدعوة إلى الناس، ثم السلوك والمعاملة الحسنة قال الله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) [آل عمران:104].
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: بلّغوا عنّي ولو آية " رواه البخاري برقم (3461). ويقول صلى الله عليه وسلم مخاطباً عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "... ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ". رواه البخاري برقم (3701)، ومسلم (2406).
إن هذه النصوص وأمثالها تغري المسلم بالقيام بالدعوة ؛ فالدعاة هم المفلحون وأجرهم عظيم، والذين يعرفون آية واحدة كثيرون، وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم للتبليغ.
المهم أن يكون ذلك بالرفق واللين، والتيسير والتبشير، وبالحكمة والموعظة الحسنة.. وعلى الداعية أن يتخذ الأساليب المؤثرة الجذابة التي تتناسب مع عصره ومع مستوى المخاطبين، وينبغي أن يعدد طرق العرض وأن لا يجمد على طريقة واحدة لا يحيد عنها، إنّ عليه أن يلجأ إلى الموازنة والمقارنة.. يوازن بين ذاك المستوى الرفيع الذي توحي به أحداث السيرة وبين المستوى القائم، وعليه في أحيان أخرى أن يلجأ إلى بيان انطباق الحادثة المروية على الواقع الذي يحياه السامعون، ويحسن أن يورد الحادثة قصة يعرضها بأسلوب واضح، وبلغة غير معقدة، ويجتنب الغموض والإغراب، ويحلل ما فيها من مواقف، ويعلق عليها تعليقات تتصل بواقع الناس.
الدعوة والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة:
هذه مصطلحات إسلامية متقاربة المعنى، وقد يتداخل مدلول بعضها بالمصطلحات الأخرى، ويحسن توضيح المراد منها وبيان الفروق بينها، فمن هذه المصطلحات (التربية) و (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) و (النصيحة)، فإذا نظرنا إلى المراد من (الدعوة) و (التربية) وجدنا أن معنى كل منهما يعتمد على معنى المصطلح الآخر.
فالدعوة أعم، لأن الداعية يدعو الناس جميعاً إلى الحق والخير والهدى، فمنهم من يستجيب ويقبل، ومنهم من يعرض.
وقد مثّل الرسول صلى الله عليه وسلم حالة المدعوين مع الداعي بحالة الأرض مع المطر، فمن أنواع الأرض نوع يتلقى الماء ويُنبت الكلأ والشجر، ومنها أرض قيعان تبتلع الماء ولا تنبت شجراً ولا كلأ، ومنها نوع يتجمع الماء فيها فينتفع الناس منها وهي لا تنتفع.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً: فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا. وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء و لا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ". رواه البخاري برقم (22)، ومسلم (2280).
ومن هنا كان مصطلح (أمّة الدعوة) ويدخل في هذا المصطلح كل من وجهت إليه دعوة الإسلام، فمن استجاب كان من (أمة الإجابة).
إذن الدعوة تكون أولاً، فمن استجاب إليك وجب عليك أن تتعهده بالتربية والتعليم والرعاية والتقويم.
والتربية على الخلق القويم دعوة ولكن تكون بعد الاستجابة.
وهاتان الكلمتان بالنسبة إلى المجتمع النبوي في المدينة كانتا متداخلتين.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه إلى الخير، ويتعهدهم بالتربية والرعاية.
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو بين المسلمين، قال الله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) [التوبة:71].
وأما النصيحة فمعناها قريب من الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة " قلنا: لمن ؟ يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " رواه مسلم (55)، وأبو داود (4944)، والنسائي (7/156)، والترمذي (1926).
فقد جعل صلى الله عليه وسلم الدين هو النصيحة، ثم بيّن عموم النصيحة وشمولها، وهي من مقتضيات الأخوة الصادقة التي تجعل المسلم إذا رأى العيب في أخيه وضحه له وكشفه له ليتركه، وهذا ما دل عليه الحديث: " المؤمن مرآة المؤمن " رواه أبو داود (4918)، والترمذي (1929).
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم النصح لكل مسلم أمراً داخلاً في البيعة مقروناً بالصلاة والزكاة كما جاء في حديث جرير بن عبد الله الذي يقول فيه:
بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم. رواه البخاري (57) ومسلم (56) وأبو داود (4945).
ويبدو – والله أعلم – أن مصطلح الدعوة أعم هذه الألفاظ، وأنها جميعاً من الدعوة.